ألبرتو جياكوميتي ضيفا مميزا في متحف غرونوبل

الإنسان بوصفه موضوعا وحيدا للفن

مفهوم الهشاشة يحضر في أشكال جياكوميتي ـ البشرية
TT

ثمة أسماء في عالم الفنون يكفي أن تذكر فقط لتسري دهشة بين السامعين. بديهي القول إن الكثير من الأسماء أصبحت رنتها تطرب الأذن لشدة ما تكررت على مدار سنوات وسنوات، لكن الحق أن هذا ليس الذي يثير الدهشة، بل إن ما يثيرها هو طبيعة الإرث الفني الذي تركته هذه الأسماء ومدى تأثير هذا الإرث في مجمل الحركة الفنية العالمية إلى جانب ما تتفرد به هذه الأعمال من تميز وأهمية ودور في تاريخ الفن. هذه الأسماء ليست كثيرة. من بين السبع مليارات نسمة التي يكتظ بها الكوكب أسماء قليلة وقليلة جدا هي التي تميزت. ومن بين هذه الأسماء يلمع اسم ألبيرتو جياكوميتي (1901 – 1966) الذي ساقه الحظ، ربما، لأن يعيش في باريس في الفترة التي كانت فيها المدينة المختبر الحضاري للثقافة الغربية الحديثة.

لم يكن جياكوميتي حاضرا فقط في باريس النصف الأول من القرن العشرين، بل كان مشاركا ومؤثرا وشديد الحضور في المشهد الثقافي العام، سواء من خلال العلاقة الوطيدة التي جمعته بأندريه بروتون مؤسس السريالية وبالسرياليين وتأثيره على هذه الحركة، بل أيضا بانفصاله عنها وتأسيس رؤيته الخاصة للفن. وصل جياكوميتي في النصف الثاني من عام 1935 إلى بلورة فكرته الفنية الخاصة، علك مدارس كثيرة، لاكها كما لو أنها لبان. لكنه بعد هذا انفرد بمدرسته وبفكرته وبنظرته الخاصة التي رأي من خلالها الإنسان في منظومته الحياتية الكونية.

لا تحضر كثيرا، لا في هذا المعرض ولا في معارض سابقة، الأعمال التي أنتجها جياكوميتي في مرحلته السريالية (1929 – 1935) التي كانت المرحلة الأكثر زخما وإنتاجا، في اللوحات، التي غالبا ما تغيب حين يعرف عنه في الأوساط الفنية. تلك المرحلة التي لعب فيها مجموعات من الدمى والأشكال الحلمية. كانت مرحلة نضرة وحيوية، عبرت أو عبر حينها عن تطلعات في حمل هموم الإنسان (المعاصر) يومذاك. يدخل هذا المعرض إلى الخلاصة، جياكوميتي كما غيره من الأسماء اللامعة التي أثرت في الحركة الفنية العالمية أو كانت علما طليعيا في جيلها، لا يتناول إلا من النهاية من الخلاصات التي جسدته نجما. ربما، هذا المطلب الجماهيري، أو ربما يستحيل جمع أعماله كلها في معرض واحد. جياكوميتي كان منتجا شرها، ترك مئات القطع الفنية، وهي قطع مملوكة لأفراد ومؤسسات وجزء منها معروض في المؤسسة الخاصة التي شيدت له باريس.

تحضر في أشكال جياكوميتي - البشرية مفهوم الهشاشة الذي راج منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى التي عاشها جياكوميتي بتفاصيلها المريعة والمقززة. تبدو أعمال جياكوميتي خلاصة لما رآه من مشاهد في الحروب التي طحنت أوروبا. لم يكن القرن العشرون الذي تابعه جياكوميتي من سنته الأولى حين ولد في بداياته. حصدت الحرب الأولى التي كان جياكوميتي فيها طفلا ثمانية ملايين نسمة وضعفهم من الجرحى. من كان في سويسرا يومذاك رأى كل شيء، عاش الحرب بتفاصيلها، وشاهد من ضمن مشاهداته بعين الطفل الذي كانه، كيف يتحول البشر إلى بخار. إن الاستنتاج الوحيد الذي يخرج به أي شخص من الحروب هو هشاشة الكائن البشري وضعفه. يقول جان بول سارتر تعليقا على أعمال جياكوميتي: «اختار جياكوميتي مادة لا وزن لها، مادة هي الأكثر هشاشة وعرضة للتلف والأكثر شبها بالإنسان، لكنها ذات طابع روحي خالد».

اشتغل جياكوميتي جل أعماله بالبرونز والجفصين. مادتان هما دليل وثيق على تمجيد الهشاشة، التي عبر عنها في أكثر من مكان. البرونز الخام ليس سوى غبرة أو صخور تتفتت وتندثر، أما الجفصين فليس سوى الغبار. وعلى هذا بنى جياكوميتي أعماله، كما أشار سارتر حين قرأها على مواد تحيلنا إلى رؤية خاصة للإنسان، افترقت حتى عن السرياليين الذي كان هو أحدهم.

لا يمكن للناظر إلى أعمال جياكوميتي المعروضة في متحف غرونوبل النظر نظرة معاصرة. كل شيء فيها يحيلنا إلى السابق، إلى الأمس، إلى ما كان عليه العالم لا إلى اليوم. لكن الشيء الوحيد الخالد فيها هو مفهومها أو هشاشتها. تماثيل جياكوميتي، خصوصا الصغيرة التي وضعها في إطارات من البرونز ووضعها في الأعلى، في الأمكنة المطلة على اللاشيء أو العدم. ذهب جياكوميتي قبل نصف قرن تقريبا عن العالم، أما منحوتاته فبقيت تطل على نفس المشهد العدم من ناحية والبشر الغارقين في الهشاشة من جهة ثانية.