حالة من السحر تغلف سوق الفن العربي المعاصر

وسط إقبال كبير من المقتنين الدوليين والمحليين

جانب من مزاد سوذبيز للفن المعاصر الذي أقيم في الدوحة أول من أمس
TT

لو أخبرتك بوجود مبيعات فنية بملايين الدولارات في الوقت الراهن، فربما تقول إن هذا ليس شيئا غريبا حتى في زمن الركود. أما بالنسبة لتلك المبيعات فهي للفن العربي المعاصر، وأما المكان فهو الخليج العربي، حيث أقامت دار كريستيز للأعمال الفنية مزادين في دبي يومي السادس عشر والسابع عشر من أبريل (نيسان) بقيمة إجمالية تصل إلى 6.4 مليون دولار، كما أقامت دار سوذبي مزادا آخر في الثاني والعشرين من نفس الشهر، بقيمة إجمالية قد تتعدى 11 مليون دولار في المتحف العربي للفن الحديث بالدوحة. وتقول لينا لازار جميل، وهي خبيرة في الفن المعاصر الدولي بدار سوذبي: «الدوحة هي محور الفن بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويقدم المعرض أعمالا نموذجية لفنانين مهمين للغاية». وفي دبي، حيث انتهى معرض دبي للفنون بنجاح كبير، قال مايكل جيها، وهو المدير التنفيذي لدار كريستيز في الشرق الأوسط، إن المزاد قد أثبت أن «السوق تستجيب بشكل جيد للغاية لمبيعات الفنانين العظماء ذائعي الصيت»، معلقا أيضا على «الاهتمام المتزايد من المشترين الدوليين ونضج الأعداد المتزايدة من الهواة المحليين الذين يتسمون بالاستنارة والالتزام».

والآن، باتت هناك حالة من السحر، حيث لم يعد الأمر يقتصر على المشترين الدوليين - المتاحف وهواة جمع اللوحات الفنية والمستثمرين - فحسب، ولكن بات هناك إقبال كبير من مشتري المنطقة نفسها. وعلاوة على ذلك، لن يقبل أي مشتر بأقل من اللوحات الفنية الرائعة التي تغطي هذا المجال الواسع، وما أكثرها في حقيقة الأمر. إننا لا نتحدث هنا عن الشرق الأوسط فقط، ولكننا نتحدث أيضا عن شمال أفريقيا وإيران وتركيا.

وقبل عقود قليلة، كان العالم ينظر إلى منطقة الشرق الأوسط على أنها موطن المتطرفين والأزمات والنفط، وهي وجهة النظر التي سادت عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر بكل تداعياتها السيئة، ولم يكن العالم بالطبع يربط بين تلك المنطقة والفن المعاصر. ومع ذلك، كان هناك عصر ذهبي للإبداع يولد في ذلك الوقت، على الرغم من الوجود الدائم بطبيعة الحال لتقاليد عريقة لتلك المنطقة. وحول موضوع «العروبة» بعد هزيمة العرب من إسرائيل في يونيو (حزيران) عام 1967، كتب الشاعر والناقد بلند الحيدري يصف الفنانين بأنهم «يتنافسون مع بعضهم البعض في محاولة لشق طريق جديد من شأنه أن يعطي تعبيرا ملموسا للرغبة الشديدة في الوحدة العربية، مما جعل العالم العربي يخلق فنا يعبر عنه». وكتبت فينيسيا بورتر، وهي أمينة قسم الشرق الأوسط في المتحف البريطاني، في كتالوغ «كلمة في الفن» الذي يروج لمعرض الخط العربي المعاصر في المتحف عام 2006، تقول: «ونتيجة لذلك، بدأ الفنانون العرب، وكثير منهم قد تم تدريبهم في الغرب أو احتك بتقاليد الفن الغربي، يستلهمون الفن من جوانب ثقافتهم الأصلية».

ويختلف تطور الفن الإيراني المعاصر بشكل واضح، حيث تقول الفنانة الإيرانية اللبنانية روز عيسى، وهي خبيرة الفنون البصرية المعاصرة والفيلم في العالم العربي وإيران: «خلال السنوات العشرين الماضية، كان لتأثير السينما الإيرانية دور في وجود مزيج من الأفلام الوثائقية والتصوير الفوتوغرافي المقترن بالخيال، وهو ما خلق لغة جمالية جديدة. ازدهر فن التصوير في إيران في أعقاب الحرب بين إيران والعراق، التي تسببت في الكثير من الخسائر في الأرواح البشرية والبيئة الطبيعية والهندسة المعمارية، وكان الفنانون يريدون توثيق مدنهم وعائلاتهم وتاريخهم، وكان فن التصوير هو أسهل وأرخص طريقة للقيام بذلك. ولا تزال قوة الفن الإيراني تنبع من الطريقة التي يروي بها قصص الحياة الواقعية، والشعر الواقعي، والفوز بالجوائز والتأثير على الفنانين الغربيين». وانتهى للتو معرض كبير في متحف فيكتوريا وألبرت بعنوان: «ضوء من الشرق الأوسط: تصوير فوتوغرافي جديد»، وضم أعمال الكثير من المصورين الإيرانيين البارزين.

وتعتبر منطقة أخرى مستنزفة بشكل دائم جراء الحرب، وهي لبنان، مركز فنون مفعما بالنشاط، على الرغم من حقيقة أنه قلما يحظى بأي تمويل حكومي. وفي بلاد أخرى تملك ثروة نفطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إضافة إلى تركيا، تدعم البنية التحتية المزدهرة للتطور الثقافي المحلي هذا العصر الذهبي من الفن العربي، وهو ما يتجلى في إنشاء المتاحف ومعارض الفنون والبيناليهات وتمويل «بعض» مراكز تعليم الفنون، وحيث يزداد عدد صالات العرض الخاصة شهريا. تفتقر بيروت لمواقع الفنون، الحكومية والخاصة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الفنانين اللبنانيين ينتجون صورا مؤثرة عاطفية وعادة ما توظف أعلى مستويات التكنولوجيا، في مواجهة أشباح حربهم الأهلية وسبع غارات إسرائيلية.

ظهرت صالات عرض فنية رائدة في وقت مبكر في القاهرة، من عام 1982 فصاعدا، وفي عام 2000، بدأ مهرجان «النطاق» يقدم جيلا جديدا من الفنانين ووسائل الإعلام. تأسست صالة عرض «أرتيكوليت بابون» لتكون بمثابة «مركز للثقافة المضادة في مصر والشرق الأوسط» وعرضت مؤخرا العمل الفني «أرابو بوب» للفلسطينية ليلى الشوا. حدثتني قائلة: «إنه نقد حقيقي لدبي، مع كونه خفيا. كل تلك المباني شاهقة الارتفاع التي تطالعها في لاس فيغاس أو في أي مكان - لا يوجد أي إحساس بالأصالة، كل شيء توظفه أجهزة الكومبيوتر، التي تنتج عمارة غريبة. ومن ثم، قمت بكسر أكثر أشكال الفن الإسلامي تقليدية، وهو تصميمه الهندسي المجرد، الذي تحكمه القواعد الرياضية. إذا ما قمت بتغييرها، يصبح هذا الفن غير قادر على البقاء. إن ما تراه اليوم في العالم العربي هو أيقونات مستعارة من مذهب المادية، متأثرة بالتسويق الغربي، وحالة غياب للهوية الثقافية».

يتميز الفن العربي المعاصر في غالبيته بأنه فن متمرد، يتعامل مع القضايا اليومية ولا يميل بشكل كبير إلى العدمية والانغماس في الملذات كما هو الحال في الفن الغربي. وفي المناطق الفقيرة مثل فلسطين هناك تعطش للفن، لكن الموقف هناك مخيف إلى حد بعيد. ويقدم بينالي رواق الفن والتصميم مساحة داعمة للفنانين، لا لعرض أعمالهم فقط بل للحوار مع الفنانين من بلدان أخرى.

أحد هذه النماذج ليلى شاوا التي تعيش في لندن، لا تستطيع العودة إلى فلسطين، ستعرض لها دار سوذبي قطعة من مجموعتها الجديدة «سلسلة البندقية» والتي تسمى «حيث ترقد الأرواح III»، وهي بندقية AK45 المغطاة كلية بكريستال سواروفسكي وأحجار الراين والفراشات. إنها براقة وجميلة لكنها بندقية. وتقول شاوا: «أنتمي إلى دولة كانت مثار أطول نزاع في التاريخ، ولدي كراهية خاصة للدمار وكوارث الحروب. الفراشات في هذا العمل تمثل أرواح الأشخاص الذين قتلتهم هذه الأسلحة».

أسفل مبنى متعدد الطوابق في دبي في أحد المباني الحديثة، تنتشر بعض متاحف الفن الحديث، تعمل أغلبها على الساحة الدولية، بما في ذلك معرض ثيرد لان للفنون، الذي يمتلك فرعا في الدوحة. والذي يسعى إلى الكشف عن المواهب الشابة ومن يعيشون في الغرب. ويترك الفنانون العرب في الشتات، بلادهم طواعية أو إجبارا من قبل السياسيين ويحتفظ غالبيتهم بروح الحنين إلى الوطن في أعمالهم، وتظهر في أعمالهم مواضيع التفكك والهوية والخسارة والاغتراب إلى جانب الذاكرة الموروثة للأرض الخيالية.

لكن كل ذلك لا يبعث على التشاؤم، هناك شعور بالتفاؤل يأتي من قوة البقاء، فيختار الفنان المغربي المولد حسن حجاج العيش بين مراكش ولندن. وتجمع تراكيبه التصويرية إيقاعات متفائلة لحياة الشارع في شمال أفريقيا ممتزجة بالفكاهة والدفء ونوعا من نقد الذات الرومانسي. وعبر سلسلة الصور الساخرة لشابات مراكش التي سماها «ملائكة الكيش» تتكئ فتيات إلى دراجات هارلي ديفيدسون، تغمز إحدى هؤلاء العارضات بعينها التي وضع عليها الكثير من الماكياج، إلى المشاهد مرتدية جلابة من صنع لويس فيتون. ويستدعي الحجاب في العمل الذي ستعرضه دار سوذبي صورة صحيفة «ستارز أند سترايبس»، لعارضة محاطة بعلب المياه الغازية. ويقول حجاج: «أردت أن أقدم عملا عربيا بصورة مرحة». وقال إنه ومعاصريه يتشككون بشكل مرح في القوالب النمطية للتقاليد والحداثة والشرق والغرب.

جدير بالذكر أن أول معرض للفن المعاصر في الشرق الأوسط أقيم في المتحف الوطني الأردني، عرضت فيه مجموعة الأميرة وجدان، الفنانة التي تحظى بقدر كبير من التقدير في بلدها. وقد لعبت مع المتحف الوطني دورا فعالا في تنظيم المعرض الأول للفن المعاصر من العالم الإسلامي في مركز باربيكان بلندن عام 1989. تأسس معرض دار الفنون في الكويت عام 1994، وتقول مالكته لوسي توبالين «استغرق الأمر منا عشر سنوات صعبة جدا لإيقاظ الاهتمام والوعي للفن في الشرق الأوسط»، وقد شهدت السنوات القليلة الماضية تقدما جيدا بفضل دور المزادات الدولية ووسائل الإعلام، وقد نشرت عن ذلك مجلات أخرى خاصة مجلة «كانافا»، وقد أسهمت هي ومجلات أخرى مثل «بدو» و«ممارسات معاصرة» في نشر هذا الفن على مستوى العالم.

ولعب إشراك بيوت المزادات دورا غاية في الأهمية لتوفير منبر دولي للفنانين. وكانت «سوذبي» الأولى على الساحة مع مزاد لندن في عام 2001، ثم فتحت «كريستيز» دارها الأولى في دبي عام 2005، وشارك فيه بونهامز وفيليبس دي بيري. وفي عام 2008 قدمت دار كريستيز الفن التركي للمرة الأولى وسيخصص العام المقبل للفنانين السعوديين، الذين بدأوا المشاركة في بينالي البندقية عام 2009. كما افتتح المعرض السعودي «إيدج أوف أرابيا» مؤخرا معرضا في لندن.

بعض فناني اليوم لا يرغبون في أن يوصفوا بالشرق أوسطيين أو الأفارقة أو الإسلاميين. ويدحضون البعد الواحد للاستدلال العرقي، أو من يطلق عليهم الآخر، أو بمعنى أدق «غير الغربيين». يشعر الفنانون العرب والإيرانيون المعاصرون بحالة من الحصار بين مفاهيم الحداثة والأصالة عند التعامل مع الجمهور الدولي، والخضوع لحساسية، بل ورقابة الجمهور المحلي بشأن مواضيع معينة مثل العري، لكن الفنانين وراعيهم وجامعي التحف والمعارض والمتاحف يشكلون موجة قوية، تتردد أصداؤها في العالم.