الطرابلسيون يحتفون بأوسكار نيماير مبتكر تحفتهم المعمارية العالمية بمناسبة ذكرى رحيله

معرض رشيد كرامي الذي صمم ليكون معرضا دوليا يعاني من الإهمال

معرض رشيد كرامي الدولي
TT

كان مؤثرا، الأسبوع الماضي، رؤية المهندس الشاب غابي خرياطي يجوب أنحاء التحفة المعمارية الشاسعة المساحة، التي صممها المهندس البرازيلي الشهير أوسكار نيماير، في طرابلس، يتبعه طلابه في قسم الهندسة وأساتذتهم في الجامعة اللبنانية، شارحا، من خلال تفاصيل هندسية، كيف أن مدينتهم تحتضن اليوم واحدا من أهم المباني في العالم، التي خصصت لتكون معرضا دوليا، ومع ذلك ما يزال مهملا وشاغرا.

وسط الحديقة التي تمتد على مساحة مليون متر مربع تتوزع فيها أقسام المعرض، كان خرياطي يجول ويشرح، مسهبا في تبيان فرادة هذا الصرح الهندسي الفني المكون من أجزاء متباعدة، مبينا أن لكل مبنى سره وسحره الفريدين.

جاءت الزيارة ضمن يوم أقامت فيه رابطة المعماريين ندوة في نقابة المهندسين في طرابلس حول ما بات يسمى اليوم «معرض رشيد كرامي الدولي» بمناسبة رحيل مصممه ومهندسه أوسكار نيماير في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن عمر 104 سنوات. تبع الندوة جولة ميدانية في المعرض لتعريف الحاضرين على الصرح.

وما لا يعرفه كثيرون خارج طرابلس التي اشتهرت في السنوات الأخيرة بأخبارها الأمنية البائسة، أنها تحتضن تحفة هندسية نادرة تستحق الزيارة والتمعن؛ ففي نهاية الخمسينات، وعلى غرار «معرض دمشق الدولي» أو «معرض بغداد»، قررت الدولة اللبنانية إقامة معرض خاص بها. يومها احتج الطرابلسيون على السياسة المركزية التي تعطي بيروت كل شيء وتحرم طرابلس حقها.

كان ذلك في عهد رئيس الوزراء صائب سلام، فكان لهم ما أرادوا، رغم أن الرئيس كرامي يومها، بحسب ما تقول وثائق تم الكشف عنها، تحفظ على المشروع مخافة أن تغضب سوريا من مزاحمتها. وشرع مدير المشروع يومها يبحث عن مهندس، ووقع الاختيار على البرازيلي أوسكار نيماير، الذي وضع خططه ورسومه في وقت قياسي، وبدأ التنفيذ عام 1963، وتوقف العمل بالمشروع الذي كان قد أنجز الجزء الأكبر منه، مع مطلع الحرب الأهلية عام 1975، ليصبح الصرح شبه المنتهي مركزا للجيش السوري أثناء الحرب، ويتعطل دوره كليا.

ومنذ خروج الجيش السوري من لبنان والاقتراحات تلو الاقتراحات تقدم للاستفادة من المشروع، دون أن يصل أي منها لخواتيمه السعيدة.

ومع الوضع المتردي الذي تعيشه طرابلس، يحاول مهندسوها من جديد التفكير في خطط للاستفادة مما يعتبرونه ثروة منسية لا بد من إحيائها.

ووصف الوزير السابق شربل نحاس، خلال الندوة، «المعرض» بمساحته الهائلة التي هي ملك عام وسط المدينة، بأنه هدية لا تتوفر لمدن أخرى تتوجب الإفادة منها، غير أنه اقترح أن يشغل المكان بمشروع آخر غير المعارض التي اعتبرها فكرة كولونيالية أكل الدهر عليها وشرب. أمر لم يرُق للمهندسين الطرابلسيين الذين دافعوا عن رؤيتهم لمدينتهم ودورها، وضرورة إعادة إحياء مرافقها العامة، رافضين بعض أفكاره التي اعتبروها متشائمة وتهميشية.

الندوة التي كشفت معلومات كثيرة، بفضل دراسات يتم العمل عليها منذ عام 2004، وشارك فيها كل من نقيب المهندسين في الشمال بشير ذوق، ورئيس مجلس إدارة المعرض حسام قبيطر، والدكتور مصباح رجب، لم تكن لتكتمل من دون الجولة الميدانية.

أصر دليلنا في الجولة المهندس غابي خرياطي على أن نبدأ من المدخل الفسيح الذي يشبه تلة ارتفعت خصيصا ليكتشف الزائر المعرض بمجمله بحدائقه ومبانيه وأقسامه، قبل ولوجه إلى المكان.

إلى يسار المدخل مبنى مجهز بالكامل لإقامة 14 شخصية بمستوى 5 نجوم.

ليس بعيدا من هنا، وعلى عمود واحد مرتفع، ينفلش بشكل دائري بمساحة 490 مترا مهبط لطائرات الهليكوبتر التي يفترض أن تنقل الشخصيات. المهبط يبدو كأنه يطير في الفضاء، تدلف منه الشخصيات بواسطة سلم حديدي إلى قاعدة مربعة محاطة بالمياه، تحتها جهزت قاعة لإقامة متحف للعلوم.

وكنا ما نزال على مدخل المعرض ونحن نكتشف هذا المطار المبتكر من بعيد، ومعه بقية أجزاء المشروع، لا سيما المبنى الرئيسي الهائل الحجم، وهو عبارة عن سقف شاسع جدا، ركز على عدد قليل جدا من الأعمدة. هنا يشرح خرياطي: «هذا هو المبنى الرئيسي تم إغلاقه تجاوزا، فيما أراده نيماير مساحة مسقوفة تقام تحتها بافيونات المعارض. وفرادة هذا المبنى أن أعمدته يفصل بينها طولا 45 مترا، وعرضا 17 مترا، وهذا يتطلب مهارة خاصة، ودقة عالية في التنفيذ».

مقابل المبنى الرئيسي (البافيون اللبناني) الذي كان يفترض أن يعرض فيه لبنان كدولة مضيفة منتجاته، وهنا أيضا يرتفع السقف الكبير المساحة على مجرد أقواس تحيط بالمبنى لتحمله برمته، وداخل البافيون مساحة مفتوحة فيها أدراج ومنحنيات لصعود ونزول الزائرين.. حداثة ما تزال تقاوم الزمن. وإذا كان من شيء يجمع هذه المباني المتناثرة هنا وهناك داخل الحديقة، فهو الماء الذي يزنر كلا منها وكأنها تعوم في بركة، تنعكس عليها بفعل الإضاءة صور المباني، إضافة إلى قطار كان يفترض أن يبقى يجول بين الأقسام وينقل الزوار.

أما الأمر الثالث الذي لا تخطئه عين، فهو المنحنيات الأنيقة، سواء في الأقواس أو الأعمدة أو حتى في الشكل العام والاستدارات، التي ميزت كل أعمال نيماير.. هذا المهندس الذي أقام صروحا مثيرة، خاصة في مدينة برازيليا، أو العاصمة البرازيلية الجديدة التي تعتبر ابنة شرعية لنيماير.

هنا في طرابلس ترك نيماير أيضا بصماته الخاصة على كل قطعة رسمها؛ ففي معرض رشيد كرامي يوجد «مسرح عائم» في الهواء الطلق، تحته قاعة للعب البولينغ، وممرات تحت الأرض لدخول الفنانين، وللعمل في الكواليس، وإلى جانب هذا المسرح العائم مسرح آخر مغلق بجانبه على شكل قبة، نجرؤ ونقول إنه ربما فريد ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة بأسرها.. دائري يتسع لألف متفرج على النمط الروماني، صمم ليزود سقفه بمادة تمتص الصوت، وما تزال أعمدة الحديد النافرة من السقف تنتظر من يعالجها.

وعندما نسأل عن سبب وجود مكان العرض بشكل منخفض جدا بالنسبة لمدرجات الجمهور، يخبرنا خرياطي: «خطط نيماير لتركيب مسرح متحرك يهبط إلى أسفل ويرتفع بممثليه وفق حركة أفقية. هذا المسرح المهمل اليوم وشبه المهجور، للأسف، رغم جماليته، يستخدم لشيئين لا علاقة لهما بوظيفته التي أنشئ من أجلها: يتسلق جدرانه الخارجية الأطفال ويتزحلقون عليها، ويدخله الفضوليون الراغبون في الاستماع إلى ترددات أصواتهم، ويطلقون لحناجرهم العنان ليسمعوا صدى صرخاتهم أو أغنياتهم التي تعكسها القبة الهائلة الحجم التي تغطي المسرح».

وفي المعرض برج تستخدم قاعدته السفلية خزانا للمياه، فيما الطابقان العلويان منه صمما ليكونان مطعما بانوراميا يشاهد منه الزائر طرابلس، أحدهما مسقوف والآخر في الطابق الأخير مفتوح على الهواء الطلق. وهناك منزل مدير المعرض الفخم مع مسبحه، والمبنى المخصص كمستودع، إضافة إلى مبنى للسكن، لعله كان مخصصا للموظفين، تحول اليوم إلى فندق بعد أن شوهت معالمه التي أرادها نيماير تجريبية كما كل أعماله.

إذن رحل نيماير تاركا وراءه هذا العمل المعماري الخلاب، وسط هذه المدينة المتوسطية الغارقة في نكباتها وأزماتها.

ثمة إيمان ينتعش عند النخب في طرابلس، خاصة المهندسين منهم، أن ما تركه نيماير هنا يمكنه أن يسهم بجدية في انتشال مدينتهم من آلامها، ويعيدها إلى الخريطة السياحية والاقتصادية.

والندوة التي أقيمت مؤخرا، كما ندوات أخرى يخطط لها، ودراسات تجرى على قدم وساق - تصب كلها في هدف واحد: الاستفادة من تحفة نيماير المعمارية كما مرافق طرابلس الأخرى المعطلة؛ لاستنهاض المدينة من عثراتها.