ساحة المرجة الدمشقية تجبرها الأحداث على النوم مبكرا

تأسست أوائل القرن الماضي ولقبت بـ «عاصمة العاصمة»

جانب من ساحة المرجة الدمشقية العريقة («الشرق الأوسط»)
TT

لقد أجبرت الأحداث الدامية والحرب التي تشهدها سوريا «ساحة المرجة» العريقة التي تأسست في دمشق أوائل القرن العشرين، حيث أطلق عليها لقب «عاصمة العاصمة»، أن تنام مبكرا.

فالمرجة عُرفت بالساحة الدمشقية التي لا تنام، حيث تبقى مقاهيها ومطاعمها ودكاكين حلوياتها ومكسراتها وأكشاكها وبسطاتها فاتحة أبوابها 24 ساعة في اليوم، وتظل «همسات» بائعي العملة الصعبة نشطة فيها طيلة اليوم، بصوتهم الخافت «صراف.. صراف) وسماسرة فنادق الساحة وأزقتها وجارتها المتفرعة منها منطقة السنجقدار، الذين يتنافسون على جذب الزبائن بأساليبهم المعتادة، وبذلك تظل الساحة تستقطب الناس على مدار اليوم اضطرتها الأحداث للإغلاق في الليل.

يقول نبيل (أبو عصام)، وهو صاحب أحد مقاهي الساحة القديمة: «بعد الأحداث، صرنا نغلق مقهانا نحو الـ12 ليلا، وبشكل عام بعد التاسعة مساء يقلّ عدد الزبائن كثيرا ولا يبق من الرواد سوى المقيمين في الفنادق بالساحة، ومعظمهم من المقبلين من المحافظات وخاصة الشرقية منها، وهم زبائن دائمون لمقاهينا، بسبب شعبيتها، وكونهم يتلاقون كأقارب وأهل منطقة واحدة فيها. لذلك تشاهد أن كثيرا من الجالسين في هذه المقاهي يرتدون الزي العربي التقليدي، كالجلابية والحطاطة والبريم. والساحة التي شهدت قبل أكثر 70 عاما ولادة أشهر وأعرق محلات وورش تحضير وبيع الحلويات الشرقية ومنها (مهنّا وسمان وأسدية وشيخ الحارة وأبو راشد علوان وغيرها) وبسبب عزوف كثيرين عن شراء هذه الحلويات المرتفعة الثمن وانعدام حركة السياح، حيث كانوا أهم زبائنها، وخاصة السياح العرب، اضطر أحد أعرق محلاتها لإلغاء مهنته الأساسية بتحضير وبيع الحلويات، ولم يجد أمامه سوى تحويل المحل إلى مقهى شعبي لأنه الأفضل دخلا في هذه الأيام الصعبة».

فنادق الساحة والأزقة المتفرعة منها كثيرة، وتختلف بمستوى تصنيفها؛ فهناك ذات الثلاث نجوم، وتلك الشعبية جدا التي كانت تستقطب قبل الأحداث السياح الخليجيين والشباب منهم بشكل خاص، باتت بعد الأحداث تعاني من انعدام الزبائن، حتى قرر أصحابها تنشيطها ولو على حساب تخفيض أجور الإقامة فيها، فعادت الحياة إليها من خلال استقطابها لمئات الأسر النازحة من مناطق ريف دمشق الساخنة ومن عدد من المحافظات التي تشهد أحداثا دامية، كدير الزور والرقة وحلب، حيث تؤجر لهم غرف الفنادق بأسعار مخفضة. ويعلق سامر متنهدا، وهو أحد النازحين من مناطق الغوطة الدمشقية: «تركنا بيوتنا بسبب الأحداث وأقمنا هنا، ولكننا بالتأكيد لن نستطيع الاستمرار لأشهر طويلة؛ فرغم أن عدد أفراد أسرتي قليل نسبيا حيث لدي زوجة وولدان ومعنا والدتي العجوز، فإننا ندفع يوميا ألف ليرة سورية، وهذا مبلغ مرهق أدفعه من ادخار سابق من عملي الذي خسرته بسبب الأحداث».

كذلك تشهد الساحة، خاصة في الرصيف المقابل لحديقة الآرماني التراثية، افتراش بعض الأسر النازحة الأرض والمسطحات الخضراء هناك حيث تقيم بشكل دائم، وحسب بعض المتابعين فإن هذه الأسر من «النور»، الذين كانوا يقيمون في مناطق شبه صحراوية على أطراف بعض قرى الريف الدمشقي ونزحوا مع سكان هذه القرى، ولكن بسبب طبيعتهم الخاصة فهم لا يستطيعون الإقامة في أماكن مغلقة ويعيشون طيلة حياتهم في خيم بسيطة في العراء، ولذلك فضلوا افتراش الحديقة والرصيف على أن يمكثوا في أماكن الإيواء المؤقتة الموجودة في أجزاء من مباني مدارس وصالات الأبنية الدينية والاجتماعية في دمشق. ويمتهن هؤلاء التسول خاصة النساء والأطفال منهم حيث يلاحظ أعداد كبيرة منهم يتسولون في ساحة المرجة بينما يمتهن الشباب تلميع الأحذية أو بيع الدخان على البسطات.

ظاهرة قديمة عادت لساحة المرجة بعد أن غابت عنها لأكثر من 40 عاما، وهي انطلاق حافلات النقل العام منها؛ فالعابر على أرصفة الساحة والجالس في مقاهيها سيسمع كثيرا من الشبان وهم ينادون «للدير للبوكمال» أو «هجين الدير» وغير ذلك، وليشاهد بعض الناس وبلباسهم التقليدي العربي يأتون لهؤلاء الشباب ليسجلون أسماءهم لديهم ويدفعون لهم مبلغا من المال مع بعض المجادلة، والمبلغ هو أجرة السفر نحو مناطق سوريا الشرقية، خاصة دير الزور والبوكمال وغيرها.

يقول أحد هؤلاء الشاب، وهو في منتصف العشرينات من العمر، إن ابن عمه يمتلك بولمانات وحافلات نقل جماعي في مدينة دير الزور، وكلفه بتنظيم رحلات المسافرين بين دمشق ودير الزور. ولكن لماذا في ساحة المرجة؟ «لا أعرف» (يبتسم الشاب)، و«ما أعرفه أن كثيرين من أهالي محافظتي دير الزور يلتقون هنا في المرجة خاصة في مقاهيها (هناك مقهى في الساحة مشهور منذ سنوات بعيدة بلقب مقهى الديرية، لأن معظم زبائنه من أهالي مدينة دير الزور شرق سوريا)، وينامون في فنادقها، ولذلك فإننا نسهل الأمر عليهم حيث تأتي حافلات ابن عمي وغيرها لتقلهم من الساحة في مواعيد محددة وبأسعار مقبولة».. وأثناء حديثنا مع الشاب قاطع التذاكر جاء أحد الزبائن يريد حجز مقعد له ولوالده في حافلة البوكمال، وعندما يطلب منه الأجرة، وهي 3000 ليرة عنه وعن والده، أي عن الشخص الواحد 1500 ليرة سورية، يتذمر الزبون ويمتعض، ليجيبه الشاب قاطع التذاكر: «يا أخي، ألا تعرف أن المازوت مرتفع، حيث نؤمنه بسعر أعلى بكثير من سعره الرسمي، والطريق طويل (تصل المسافة بين دمشق ودير الزور لنحو 350 كلم، وهي تستغرق نحو الـ5 ساعات في الأيام العادية، ولكن في الوقت الحالي تستغرق أكثر من 7 ساعات)، وهو ليس آمنا دائما، كما نتوقف على حواجز كثيرة للتفتيش؟!».