خريف السينما العربية في ثورات الربيع

مخرجون عرب يتحدثون عن واقعها

مشهد من فيلم «مانموتش» (2012) لنوري بوزيد الذي خرج بالجائزة الأولى من مهرجان «الأقصر للسينما الأفريقية» قبل أيام
TT

بعد أيام يلتقي السينمائيون العرب في واحد من أهم الإطارات الإبداعية حول العالم، عندما تبدأ دورة هذا العام من مهرجان «كان» أعمالها في الخامس عشر من مايو (أيار). يتهادى سينمائيون كثيرون من مصر ولبنان والمغرب وتونس والجزائر والإمارات العربية المتحدة على ساحل المهرجان السينمائي في دورته المقبلة، بالإضافة إلى سينمائيين عرب من المهاجرين إلى فرنسا وهولندا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا. هذا دأبهم منذ عشرات السنين. ومهرجان «كان» إنما هو متنفس لحب الحضور والظهور والترويج، وإذا كان ذلك ممكنا، عرض أعمالهم المنجزة ضمن تظاهرات رسمية مع إبقاء باب التوزيع والبيع أو البحث عن التمويل المقبل مفتوحا.

التمويل ليس عملية ترفيهية، بل هو عصب كل مشروع ذاتي أو استهلاكي على نطاق واسع. والسينما الحاضرة، سواء أكانت عربية أو غير عربية، هي سينما إنتاجات تعتمد على تمويل تؤمـنه مؤسسات سينمائية، وأخرى مصرفية لقاء فوائد تجارية.

الفيلم، بصرف النظر عن وجهته ونوعه، فعل مكلف ويتطلـب تمويلا باهظا لكي يلبـي الحاجة لإنتاج الأفلام. والممولون يراهنون على جمهور شغوف وفضولي يعيش في أوضاع مستقرة في بلادهم. يحبون السينما وينشدونها في صالات مدنهم أسبوعا وراء آخر.

هذا الجمهور بالكثافة التي تستطيع تأمين تمويل، ولو محليا، لم يعد موجودا في الدول المضطربة، تلك التي تعيش تبعات ثوراتها أو حروبا بين نظمها ومعارضيها. عمليا حضوره المحدود في صالات السينما المصرية غالبا لا يحسـب. وانعدامه، أو شبه انعدامه، في الدول التي أصيبت بزلازل المتغيرات، لا يمكن له أن يؤدي إلى ثقة أصغر منتج محلي ولا أكبر طامح، مهما بلغت إمكانياته الفعلية واستعداداته الطيـبة لخوض التجارب وإنقاذ البلاد من الكساد السينمائي الذي يشهده.

* تهديد بالإضراب

* بالإضافة إلى ذلك، فإن تجاذب قوى الصراع أوضاع ما بعد الإطاحة بالنظم السابقة لم ينته بعد. وفي الأساس، كانت قدرة السينما العربية على مجابهة الظروف السياسية العامة، مع تعدد وسائط العرض، وتطور التكنولوجيا، وعزوف قسم كبير من المشاهدين عن دخول الصالات، ضعفت على نحو كبير في كل من مصر وتونس والجزائر، وهي بقيت ضعيفة حجما، وفي بعض الأحيان نوعا، في سوريا وكانت معدومة في ليبيا. مع وجود الاضطرابات السياسية الحاصلة اليوم، فإن الماضي الضعيف ذاك يبدو كما لو كان ازدهارا.

القدرة الإنتاجية لتلك الدول التي كانت محكومة بحذر رأس المال التقليدي من التعامل مع مخرجين معينين (هم الصفوة بين السينمائيين عموما) والرغبة في تشغيل الطيعين من المخرجين الباحثين عن الفرص، باتت أيضا محكومة بالأوضاع المستجدة.. تلك الصراعات بين مصالح سياسية ودينية مختلفة. وهي في كل الظروف كانت، ولا تزال، محكومة بالمؤسسات الرقابية، وحسب المخرج المصري محمد خان: «ضبابية».

يقول في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»: «الرقابة ما زالت على حالها من الغموض. ومعاييرها ما زالت غير ثابتة كما كان عهدها دائما». لكن المخرج يلاحظ أيضا أن «الأفلام الروائية التي تعاملت والثورة ما زالت قليلة ومتباعدة، وفي رأيي أنها غالبا لم تكن ناضجة في تعاملها ذلك، أما السينما التسجيلية فنجحت أكثر في هذا التعامل».

محمد خان هو أول مخرج مصري رئيسي، ومن عداد جيل السينما الواقعية في الثمانينات، الذي ينجز فيلما جديدا هذا العام. بعد أربع سنوات عن الانقطاع إثر تحقيقه «شقة مصر الجديدة»، انتهى قبل أسابيع قليلة من تصوير «فتاة المصنع». وهو يروي حادثة وقعت له خلال التصوير تكشف عن دلالة ذات أهميـة:

«كان من المفترض أن أصور في مصنع معيـن، ووافق صاحب المصنع على ذلك، لكنه فوجئ بموظـف لديه ينتمي إلى الإخوان المسلمين يهدد بالدعوة إلى الإضراب إذا ما وافق على أن يتم التصوير فيه. تعاطفت مع صاحب المصنع عندما فاتحني بالموضوع آسفا وتفهمت وضعه، ثم اتفقت مع صاحب مصنع آخر».

هذه ممارسة رقابية وسلطوية ما زالت مستقلة عن الحكم، كونها من فعل أشخاص من خارج الحكم، لكن بتأثير من أجوائه وتوجـهاته، كما هو تهديد بالآتي.. ما يجعل المخرج يميل لاحتمال توجـه المخرجين الجادين إلى «سينما الأندرغراوند»: «تهديد هيمنة الجماعات الإسلامية موجود، وأنا واثق من أن حركة (أندرغراوند) سوف تنشأ وتتسع، خصوصا أن التقدم التكنولوجي الحالي سماء مفتوحة».

* مسألة عرض وطلب

* الرقابة في دول «الربيع» هذه كانت دائما موجودة وتهيمن على صياغة القرار الذاتي للكاتب والمنتج والمخرج والفنان والمبدع عموما. المتغيرات الحالية تختلف بين نظام وآخر في التفاصيل، لكنها في النهاية تلتقي، حيال فن السينما، على ممارسة هيمنة تتماثل، إن لم تكن تتجاوز، تلك السابقة.

في سوريا، وحيال هذا الوضع، سنجد احتمال انتقال التركيبة الرقابية من النظام المتعسف الحالي إلى النظام البديل إذا ما وصل المتشددون الإسلاميون إلى السلطة، وهذا أمر بات مستبعدا. على ذلك، فإن الرقابة، بصرف النظر عن نتائج الحرب القائمة الآن في سوريا، ستبقى، والسينمائي السوري سيبقى يعمل بمقتضاها. إما هذا أو أنه سيمتنع عن العمل لمعظم سنوات حياته المهنية كما هو حادث الآن مع نبيل المالح ومحمد ملص وأسامة محمد. هؤلاء عملوا لحساب مؤسسة السينما السورية مرات قليلة في تاريخهم، ثم توقـفوا منذ بضع سنوات عن التعامل معها للأسباب ذاتها التي سيرفضون فيها العمل مع بديل متطرف مثلا.

وهناك آخرون، كالمخرج والمنتج أنور قوادري الذي اختار منذ أمد بعيد الاستقلال بنفسه والعيش خارج بلاده، وهو يقول في هذا الشأن:

«لا شك أن المؤسسة حققت الكثير من الأفلام، وأوجدت العمل للكثير من السينمائيين، لكن ضمن شروطها الخاصة بالطبع. المسألة هي أن سيناريو وصول المتطرفين إلى السـلطة في سوريا هو أمر مستبعد تماما. أراه غير وارد على الإطلاق. لكن إذا ما حدث فإن كل النشاطات الفنية مهددة بالتوقـف، بما فيها المسلسلات الدرامية السورية».

المسلسلات الدرامية السورية في الحقيقة جانب خاص ومنفصل إلا من حيث مصيره المحتمل. هي حقل تجاري قائم بذاته، كان حقق نجاحا كبيرا قبل سنوات، ولا يزال قادرا على إنتاج نحو ثلاثين مسلسلا في العام الواحد لحساب الأسواق الخارجية، أو كما يشرح المخرج القوادري:

«هناك أكثر من زاوية للنظر إلى مستقبل الدراما السورية. الأول هو أن العدد سيتقلـص بصرف النظر عما ستنتهي الأحداث الراهنة إليه. أعتقد أن عدد المسلسلات السورية لن يزيد على 7 أو 10 في العام. وهذه سيتم تصديرها إلى التلفزيونات الخليجية أساسا، وهي التلفزيونات التي طالما دخلت طرفا أساسيا في إنتاجها على شكل سلفة شراء مسبق. أظن أن الغربلة ستتم إنما على أساس من العرض والطلب، وهو أساس سليم».

من ناحية أخرى لا بد من النظر إلى حقيقة ارتفاع معدلات الإنتاج الدرامي في منطقة الخليج الذي وصل مؤخرا إلى نحو أربعين عملا سنويا. الكويت وحدها أنجزت عشرين مسلسلا في العام الماضي، «هذا سيقلص الاعتماد على الإنتاج السوري بصرف النظر عن الوضع الحالي»، كما يقول القوادري الذي كان عمل سابقا في إطار السينما المصرية والبريطانية واللبنانية والسورية. وهو عانى مؤخرا من الأزمة الدائرة حاليا: «كان عندي فيلم من إنتاج بريطاني- مصري مشترك سميته (راقصة شرقية) وكان من المفترض أن أدخل تصويره في العام الماضي، لكن المشروع وقف بسبب إحجام الطرف المصري عن المضي في مثل هذه الظروف».

غير قوادري المشروع وأعاد كتابته كمسلسل تلفزيوني، لكن، على حد قوله: «الوضع الحالي ينسف كل المخططات».

من ناحية مقابلة، عرض المخرج التلفزيوني السوري بسام الخطيب فيلما سينمائيا حققه بعنوان «مريم» في بعض صالات دمشق. لكن الوضع الحالي من التأزم بحيث لا أحد يعتبر أن هذه الخطوة على أي قدر من الأهمية. هي ليست دليل استتاب وضع، ولا تستطيع حتى أن تكون رمزا لإمكانية استمرار الحياة السينمائية، رغم كل العوائق. الحقيقة المجردة هي أن عرض الفيلم، بصرف النظر عن قيمته، إضاعة جهد في مثل هذه الظروف.

* مواقف مغاربية

* في غير مكان المشكلة ذاتها بأثواب أخرى. في تونس كان عدد الإنتاجات السينمائية قـل كثيرا عما كان عليه في السبعينات والثمانينات (من عشرة إلى اثني عشر فيلما) حتى من قبل وقوع التغيير الذي لا يزال يجر ذيوله. بالتالي لم يستطع المنتج، مع حدوث المتغيرات، الحفاظ على نسبته الدنيا من الإنتاج.

في العام الماضي أنجزت السينما التونسية أربعة أفلام طويلة، أحدها، وهو «نسمة» لحميدة الباهي، اعتمد كاملا على تمويل فرنسي (وخرج ناطقا بالفرنسية فعلا ولو تم تصويره تونسيا). المخرج نوري بوزيد يضع الكلمات في موضعها الصحيح حين يرد على السؤال حول مستقبل السينما في تونس وسط هذه الظروف بسؤال آخر: «ولماذا يكون الوضع مختلفا اليوم؟ كيف للسينما التونسية أن تتحرر وتزدهر إذا ما كانت البلاد تمر بأزمة حكم، وأزمة ثقة، وأزمة حرية، سببها تمادي الجماعات الدينية المنغلقة؟».

فيلمه الأخير «مانموتش» (2012) (الذي خرج بالجائزة الأولى من مهرجان «الأقصر للسينما الأفريقية» قبل أيام) تم إنتاجه في أعقاب الربيع التونسي، بينما تقع أحداثه في أتونها. دراما اجتماعية على خلفية الأحداث الدائرة، وفحواها تتمحور حول فتاتين صديقتين (سهير بن عمارة ونور مزوي) واحدة محجبة والثانية لا تؤمن بالحجاب، وكلاهما خامتان صالحتان وتعملان معا في مطعم. المحجبة تتحاشى الاحتكاك مع صاحب المطعم الذي يتحرش بها، أما الثانية فهي مخطوبة لتونسي عائد من هجرة سنوات في باريس. لكنه عائد بعقلية مثيرة فيما يتعلق بحرية الفتاة المخطوبة إليه، ففي حين هو أبعد عن ممارسة الشعائر ويسمح لنفسه بالشرب، إلا أنه يريد من خطيبته أن تتحجب مدعيا أن والدته هي التي تريد ذلك. يساعده شقيقها الخارج من السجن معتنقا الوجهة المتطرفة والذي يحب الصديقة المحجبة. يلج الفيلم من هنا مشاكل كل فتاة مع محيطها، ومشاكلهما معا مع المحيط العام، وهو بذلك عمل رئيسي يتجاوز عثرات أفلام تونسية ومصرية أخرى تناولت موضوع الحياة الاجتماعية في وسط الظروف الحاضرة. الفيلم ووجه بعاصفة نقدية من قـبل الجهات التونسية المحافظة، والمخرج تلقى تهديدات بالقتل والتشهير، ولم يتسن له أن يـعرض في أي من صالات تونس على قلتها.

ليس بعيدا عما عصف بالسينما التونسية تكمن سينما ثابتة رغم مستجدات سياسية أخيرة منحت الإسلاميين حضورا سياسيا واضحا. إنها السينما المغربية التي ارتفع عدد إنتاجاتها في السنوات العشر الأخيرة إلى ما معدله عشرون إلى خمس وعشرين فيلما في السنة. المدير العام للمركز السينمائي المغربي نور الدين الصايل يرجع أسباب هذا الثبات إلى عاملين مادي ومعنوي. يقول في اتصال هاتفي:

«لا تداخل مطلقا بين الإنتاجات السينمائية وبين التيارات السياسية. هذا لم يحصل من قبل ولا يحصل اليوم؛ لأن هناك ثوابت وضمانات. أولا هناك السلفة المسبقة التي تدفع من بعد قراءة السيناريو ومعاينة المشروع من نواحيه جميعا. إنها سلفة تحددها لجنة وطنية مستقلة تعين كل سنتين، وهي التي تختار الأفلام وتمنحها السلف نظير الإيرادات التي سيتم تحقيقها من السوق. ثانيا، هناك ضمان ملكي بحريات التعبير، وهذا الأمر يمشي بموازاة العامل الأول ويؤازره». ويرى الصايل بحكم موقعه أن «هذه السياسة أدت إلى حالة نشاط للسينما المغربية، وإلى وضع ثابت لها لا يتغير؛ لأنه ليس مرتبطا بالتغييرات الحكومية، أو بسياسات مرحلية من أي نوع». ما يزيد من رسوخ هذا الوضع أن المجال مفتوح لإنتاجات لا تتوجـه للمركز السينمائي المغربي طلبا للتمويل، بل تؤمـن ميزانياتها عبر شركات، إما خارجية أو محلية مستقلـة، كما الحال مع فيلم «أيدي خشنة» لمحمد عسلي، و«الرجل الذي باع العالم» لسهيل وعماد نوري، و«النهاية» لهشام لعسري، من بين أخرى خلال السنوات الخمس الأخيرة تحديدا.