معركة فوزية سلامة مع المرض: الإيمان بقدرة الله أقوى دواء

العلاج الكيماوي أعز الأصدقاء لأنه فرصتي للشفاء.. وألد الأعداء لأن تأثيره على جسدي قاس

فوزية سلامة
TT

ربما يكون إجراء مقابلة مع مريض من أصعب المقابلات التي يمكن أن يجريها الصحافي، ليس لأنه سيشعر بأنه يغوص في موضوع شخصي ومؤلم فحسب، بل لأنه لا يعرف أيضا رد فعل المريض وحالته النفسية. فما البال إذا كان لك مع هذا المريض تاريخ وعلاقة انقطعت بسبب مشاغل الحياة اليومية والعمل لتجد نفسك فجأة وجها لوجه معه مرة أخرى، وفي ظروف غير سعيدة. هل عليك أن تواسيه أم أن تتعامل معه بشكل طبيعي كما لو أن لا شيء تغير؟

كان اللقاء مع فوزية سلامة، إنسانة علمت أجيالا من الشباب، فهي إعلامية غنية عن التعريف، شغلت مناصب عدة في الصحافة المكتوبة ثم استقطبها الإعلام المرئي فأصبحت وجها يطل علينا من الشاشة الصغيرة أسبوعيا على مدى سنوات. شخصية تتجسد في ملامحها وفي آرائها سمات الأمومة حتى أصبح اسمها المتداول بين الجميع هو: ماما فوزية.

أثناء رحلتي إلى ضاحية كينجستون حيث تقيم، داخلتني هموم وانفعالات شتى. لم أكن متحمسة جدا لرؤيتها لأنني كنت أريد أن أحتفظ بتلك الصورة التي أحملها معي دائما لامرأة قوية ودافئة ومفعمة بالتفاؤل والإيجابية. كنت أخشى أن يطل علي وجهها وقد تبدلت ملامحه بسبب إصابتها بسرطان البنكرياس، وتعرضها لجراحة معقدة وعلاج كيماوي قاس. وكنت أخشى أن يغلبني الحياء فلا أطرح الأسئلة التي يتوجب على الصحافي أن يطرحها. وكانت بانتظاري مفاجأة حين أطل علي الوجه المألوف من فتحة الباب. استقبلتني بابتسامتها المألوفة وترحيبها الدافئ، لتبدد كل مخاوفي فانطلقت أسأل عن أحوالها. لم تختف الابتسامة وهي تقول: «موش بطالة».

سألت إن كنت أريد فنجانا من القهوة فسارعت بعرض خدماتي بدلا منها فرفضت قائلة إنها تعد القهوة يوميا بل وتعد الطعام للأسرة وتقوم بأعمال المنزل الخفيفة، ثم أشارت إلى غرفة مبنية من الخشب في الحديقة، وهي تقول: «انظري إلى النادي الرياضي الخاص، إني أقوم بتمارين كلما سنحت لي الفرصة وشعرت ببعض الطاقة».

كان من الواضح أنها تكيفت مع ظروف جديدة عليها. لكن كيف يتكيف الإنسان مع ظروف قاسية؟ وكيف يستوعب صدمة الإصابة بمرض خبيث كالسرطان؟

هل كانت تجربتها الحياتية الطويلة سببا في هدوئها وتقبلها لصدمة المرض أم أن هناك عوامل اجتماعية ونفسية تلعب دورا؟ كيف استقبلت السيدة فوزية نبأ الإصابة بسرطان البنكرياس؟

قالت: إنها ظلت في حالة ذهول وشك في صحة الأمر إلى درجة جعلتها تظن أحيانا أنها تحلم حلما مزعجا لا بد أن تصحو منه على الواقع المألوف. غير أن التشخيص تم وفي خلال أيام تقرر إجراء الجراحة عاجلا لأن سرطان البنكرياس هو الأشرس والأكثر خبثا إلى حد أنهم يسمونه السرطان الصامت. فالمريض لا يشعر بأعراضه التي تتمدد وتنتشر في صمت إلى أن تصل الخلايا السرطانية إلى الأعضاء المجاورة للبنكرياس. كما لا تظهر الأعراض على المريض إلا بعد أن تكون فرصة العلاج والشفاء قد ولت. أما اكتشافه مبكرا واستئصال الورم، فيؤمن للمريض فرصة شفاء لا تتوفر إلا لـ10% من حالات الإصابة، وهذا ما حصل بالنسبة لفوزية.

تقول: «حينما بدأ وزني في الانخفاض تفاءلت خاصة أن الوزن الزائد لازمني طويلا. ولكن حين انخفض وزني قرابة عشرين كيلوغراما، أصر زوجي على مراجعة الطبيب وأن تجرى لي فحوصات بالأشعة لمعرفة ما يجري حقا».

أجريت الأشعة وفي اليوم نفسه سافرت إلى بيروت للاشتراك في كلام نواعم - البرنامج الذي حقق لي نجاحا مطردا على مدى 11 عاما. وحين عدت من بيروت طلب الطبيب الاختصاصي أن يراني.

توقعت أن يقول لي إن انخفاض الوزن وما صاحبه من فقدان للشهية سببه عرض بسيط يمكن علاجه. ولكنه قال: «أخبار سيئة وأخبار جيدة فماذا تريدين أن أبدأ به؟ قلت له: هات ما عندك لأنني لست خائفة. فقال: الخبر السيئ هو أن الأشعة كشفت عن ورم سرطاني في البنكرياس. والخبر الجيد هو أن زوجك أنقذ حياتك بإصراره على إجراء الأشعة. فهذا النوع من الأورام هو أكثرها شراسة وخبثا لأنه ينتشر في صمت إلى أن يصل إلى مراحل لا علاج لها. ولكنك ما زلت في مرحلة يمكن معها استئصال الورم. أنت من المحظوظين الذين لا تتجاوز نسبتهم 10. وأنصحك بإجراء الجراحة بلا تردد أو تأخير».

لذلك وخلال ثلاثة أيام وجدت نفسها في غرفة الجراحة وقبل أن تغيب عن الوعي، تعترف أن إحساسا بأن تلك اللحظات قد تكون هي الأخيرة في الحياة الدنيا، داخلها. وحين أفاقت نظرت إلى عقارب ساعة الحائط في غرفة الإنعاش، لتكتشف أن سبع ساعات انقضت وهي غائبة عن الوعي. تتابع: «تساءلت هل أنا أتألم؟ لا. هل أجريت الجراحة؟ لا بد أنها أجريت وإلا ما هو سبب هذه الأنابيب المثبتة في الأوردة وفي الأنف؟». اكتشفت فوزية أيضا أن استئصال البنكرياس وهو العضو الذي يفرز مادة الأنسولين لتحقيق توازن مستويات الغلوكوز في الدم يتطلب استبدال الأنسولين الطبيعي بحقن الأنسولين. فهي الآن مضطرة لحقن نفسها بالأنسولين أربع مرات يوميا. وبابتسامة أشارت إلى صندوق بلاستيكي تلقي فيه بالإبر المستعملة بناء على توصيات الهيئة الصحية حتى لا يتعرض شخص آخر لشكة الإبر المستعملة. وهزت الصندوق فسمعت خشخشة الإبر المغلفة بلاستيكيا وكأنها تنبهني إلى عدد الإبر التي استخدمتها.

ولا يقتصر الأمر على استبدال الأنسولين لأن الجراح استأصل المرارة أيضا فأصبح من الضروري استبدال الإنزيمات التي تساعد على هضم الطعام بكبسولات يتعاطاها المريض بالفم مع كل وجبة غذاء.

ربما يكون تفاؤلها المعهود وراء هذا التسليم بواقع الأمور خاصة أن عدد الأقراص والكبسولات التي تحتاجها يوميا يتجاوز الخمسة وثلاثين. قالتها وهي تتفكه بأن ألوان الأقراص والكبسولات جميلة منها الأحمر والأبيض والأزرق والوردي.

ألم تساورها لحظة غضب أو رثاء للنفس؟ يأتيك جوابها معبرا عن قوة داخلية، بأنها تعتبر هذه الأزمة ضريبة دخل على حياة طويلة بلا أمراض وبلا عثرات وأنها لو شعرت بالغضب تكون ناكرة لنعمة الله الذي أعطاها الكثير. ثم تصمت لحظة وتتردد قبل أن تفضي بأنها ذات ليلة قرأت سورة الانشراح وشعرت بأن كلام الله موجه إليها. ثم تذكرت سورة الضحى وأدركت أنها تذكرة وبشرى تطمئنها بأن كل ما يأتي به القدر هو إرادة الخالق وأن الخالق أرحم بمخلوقاته من أنفسهم.

لاحظت أن جدران غرفة المعيشة عليها ملصقات كتبت عليها عبارات شتى فقمت من مجلسي لقراءة تلك العبارات.

قرأت: سأخرج من هذه المحنة أفضل مما كنت.

وقرأت: كل يوم سوف أشعر بتحسن عن اليوم الفائت.

وقرأت: العلاج الكيماوي هو أعز أصدقائي.

عدت إلى مجلسي وقلت لها إن العلاج الكيماوي لا يمكن أن يكون صديقا. فضحكت وقالت: إنه «أعز الأصدقاء لأنه فرصتي للشفاء وألد الأعداء لأن تأثيره على جسدي المحارب شديد القسوة. ففي يوم جلسة العلاج أعود إلى البيت في حالة إعياء شامل بحيث أشعر وكأن حافلة مكتظة بالركاب مرت من فوق جسدي فأحالته إلى كتلة لحم وعظام. في مثل تلك الزيارات الأسبوعية ينتابني قلق شديد قبل اليوم المحدد بيوم أو يومين، ولكني أعود من جلسة العلاج إلى الفراش رأسا. وفي اليوم التالي تتحسن الأمور قليلا ولكني لا أقوى على ترك الفراش. ثم يأتي اليوم الثالث بعد العلاج الكيماوي وتأتي معه بوادر عودة الحياة الطبيعية المألوفة فأنهض وأتناول الطعام وأنظر إلى الخارج بارتياح وكأنني ألتقي بصديق طال غيابه».

أسألها ما الذي يتوجب على مريض السرطان أن يفعله في الحياة اليومية فلم تتردد في الإجابة قائلة: «أن يسمع كلام الأطباء، وأن يتمسك بالأمل لأن الأمل في الشفاء وارد، ولأن الأبحاث الطبية الجديدة تشير إلى ذلك. الإيمان بقدرة الله على شفاء أي مرض هو الدواء الناجع. أضيفي إلى ذلك أن حب الحياة دواء والتطلع إلى المستقبل دواء. كل يوم تشرق علي فيه الشمس هدية من الله تشعرني بأن علي الفرح بها وتوظيفها لإسعاد نفسي وإسعاد أهلي وأصدقائي. كلما فكرت في عدد الرسائل والمكالمات التي وصلتني من جمهور القراء والمشاهدين أشعر بأنها جزء من رضا الله. لا تتصوري كم أشعر بالتواضع والامتنان حين أقرأ دعاء لي بالشفاء على الـ(فيس بوك) من شخص لا يعرف مني سوى وجهي الإعلامي. أشعر بالتواضع وبنعمة الله علي. وهذا يقوي عندي الأمل في الشفاء ويدفعني للالتزام بتعاطي العلاج وبالتغذية السليمة».

المعروف عن فوزية سلامة، ليس حبها للحياة فحسب وروحها المتفائلة، بل أيضا حبها للطعام، الذي لم تستطع أن تقاومه في السابق، رغم أنه كان لها مع الحميات الغذائية جولات وصولات كانت دائما تقهرها. تبتسم وتقول: إنها لا تزال تحب الطعام، لكنها تتقيد الآن برأي الأطباء الذين ينصحون مريض السرطان بألا يحرم نفسه من أي طعام ولكن الاعتدال مطلوب، خاصة ما يتعلق بالسكريات لأن الخلايا السرطانية تنشط وتقوى بالسكريات والدهون التي تتحول إلى سكريات.

وتضيف أن الخضراوات الورقية أساسية في مقاومة المرض مثل السبانخ والجرجير والكرنب والخس ويجب على المريض أن يتناولها يوميا، كما عليه أن يستبدل الحلوى المصنوعة بالسكر بالفواكه، وإن لزم الأمر يمكن تناول قطعة صغيرة من الشوكولاته بين حين وآخر. أما حين يشعر المريض باشتياق إلى المذاق الحلو، فيمكنه تناول العصائر الطبيعية المصنوعة في البيت مثل عصير البرتقال والتفاح والفراولة.

لم يكن ممكنا إنهاء الحوار من دون السؤال إن كانت علاقتها بالزوج والابنة الوحيدة تغيرت بعد المرض.

قالت وهي تودعني وفي مشيتها تثاقل وعرج خفيف لكن بابتسامة عريضة يشوبها التعب: «سأجيبك على سؤالك ولكن فكري فيما سأقوله لك بتأن لأنك ما زلت شابة. ففي الشباب لا نهتم إلا بالمشاعر والطموح والنجاح، ولكن حين نتقدم في العمر تختلف الأولويات. فالحب يأتي بلا شروط والعبرة ليست بالجمال أو الصحة الكاملة». لم أفهم الإجابة إلا بعد أن ودعتها وسمعتها تغلق الباب. انتهت الزيارة ولكن لم ينته التفكير فيما قالته لي من أن زوجها زارها في المستشفى يوما وكانت تبدو عليه علامات الإرهاق الشديد بحيث إنه جلس على المقعد ثم غلبه النعاس فنام طويلا، وحين أفاق رآها تنظر إليه بإشفاق كبير فقال لها: «لا تخافي. لقد سهرت ليلة البارحة أصلي لله وأطلب منه أن يشفيك ويعيدك إلي لأني بحاجة إليك. وشعرت باطمئنان بعد صلاتي وكأنني أتلقى إشارة بأن الله سمع دعائي وهو مجيب الدعاء».