المصريون يحتفلون بشم النسيم بالخروج الى الحدائق

رغم تحذيرات وزارة الصحة من المأكولات الفاسدة

توافدت العائلات المصرية على الحدائق العامة للاحتفال بالربيع رغم سوء الاوضاع الامنية
TT

رغم إطلاق وزارة الصحة المصرية تحذيرها «السنوي» للمواطنين بضرورة تجنب تناول أسماك «الفسيخ» في عيد شم النسيم لما يمثله من خطر على صحتهم، فإن عادة أكل الفسيخ تنتصر على كل التحذيرات، أمام مذاقه الذي يستهوي شرائح كبيرة من المصريين، ويستعيدون معه عبقهم الفرعوني، خصوصا أنه منتج يوجد فقط في مصر ويرجع تاريخه إلى عهد الفراعنة الذين لا تزال آثارهم تواصل البوح بالكثير من أسرار قدماء المصريين، وتفاصيل حياتهم التي تشتهر بالسحر والغموض. وقال باحثون وأثريون مصريون إن للمصريين تاريخا طويلا مع أكل الأسماك المملحة المعروفة باسم الفسيخ، كما عرفوا حب الزهور وقدسوها وأعطوا اهتماما كبيرا للاحتفال بقدوم فصل الربيع.

وتتسم أعياد الربيع، خصوصا شم النسيم، بطقوس الإقبال على تناول أسماك الفسيخ والرنجة والسردين، بالإضافة إلى البصل الأخضر والخس والجرجير والترمس والليمون، وهي الأطعمة التي لا تخلو منها مائدة في هذا اليوم.

وكان الربيع الذي يغير معالم ما بين الفصول عيدا عند المصري القديم لارتباطه بالشمس والنهر، ولذلك كان المصريون القدماء يتناولون فيه السمك والبصل والبيض. وصارت تلك المأكولات مظهرا ثابتا من مظاهر الاحتفالات بأعياد الربيع في مصر منذ نهايات العصر الفرعوني وبدايات العصر القبطي، وبات تناول المصريين لتلك الأطعمة من العادات الباقية حتى اليوم.

وتشير الباحثة المصرية الدكتور خديجة فيصل مهدي إلى أن قدماء المصريين اهتموا بالأعياد التي كانت مناسبة لديهم لإقامة أفراح عظيمة تغني فيها أناشيد جماعية تنشدها السيدات النبيلات المشتركات في المواكب مع أصوات القيثارات وأغاني الغرام والأناشيد المصاحبة لحركات الرقص.

وتابعت: «كانت أعياد الفراعنة ترتبط بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة، ولذلك احتفلوا بعيد الربيع الذي حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل».

وتشير إلى أن السنة المصرية القديمة احتوت على الكثير من الأعياد التي ارتبطت بالتقويم مثل رأس السنة، وأعياد كل شهرين، وبدايات الفصول، وفي هذه الأعياد يحمل الكهنة تمثال معبودهم ويسيرون به في موكب مهيب يشارك فيه الجميع، ويؤدي فيه المهرجون والمغنون والراقصون فنونهم.

وحسب الدكتورة خديجة، كانت تقام في هذه الأعياد العروض المسرحية التي تصور أساطير معينة، وكان الأهالي وليس الكهنة هم الذين يحتفلون بأعياد المعبودات الطيبة الصديقة والودودة.

وينفرد المطبخ المصري بـ«الفسيخ» الذي ينظر إليه في دول العالم باعتباره «سمكا فاسدا»، وبالتالي لا توجد مواصفات قياسية عالمية لهذا المنتج، وهي الخطوة التي انتبهت إليها هيئة التوحيد القياسي المصرية مؤخرا مما جعلها تنفرد بعمل مواصفات لهذا المنتج تحدد جودته وصلاحيته للاستهلاك الآدمي، وذلك في إطار برنامجها لاعتماد وتسجيل الأغذية المصرية دوليا لدى المنظمات المعنية بالجودة، مثل المش والفطير المشلتت والعسل الأسود والجبن القريش والحلاوة الطحينية والكشري والطعمية المصنوعة من الفول، وهو ما يتيح التأكيد على أن هذه المنتجات، بما فيها الفسيخ، جزء أساسي من التراث المصري، وبما يمكن تصدير هذه الأغذية إلى الأسواق الدولية بمواصفات معتمدة.

ويشير الدكتور سعيد شلبي، رئيس قسم الطب التكميلي بالمركز القومي للبحوث في مصر، إلى أن مقاييس الجودة في الفسيخ تتمثل في استخدام أسماك طازجة وسليمة عند التمليح، وليس تمليح الأسماك الفاسدة عند البائعين، وتجنب وسائل التلوث للأسماك. أما لمعرفة الفسيخ الجيد فتكون الأسماك غير منتفخة ولا تنبعث منها رائحة تعفن، والأسماك غير مهترئة، ولا توجد عليها بقع أو بروز للأحشاء، وليس بها جفاف نتيجة لزيادة الملوحة، ولونها وردي ولا تنبعث منها رائحة غير طبيعية.

ويتابع: «رغم الملوحة التي يتميز بها الفسيخ، فإن الدراسات قد أثبتت وجود بعض الطفيليات والبكتيريا الممرضة في هذه الأسماك، ويرجع وجود البكتيريا في هذا المنتج إلى الطريقة التي يتم بها تصنيع هذا المنتج، حيث تترك الأسماك في العراء حتى يحدث لها بعض التحلل أو الانتفاخ، وهو ما يسمى بعملية التفسيخ، التي قد يصاحبها حدوث التلوث بالبكتريا الممرضة عن طريق الذباب. وفي بعض الأحيان يتم التلوث ببعض البكتريا الخطيرة التي تؤثر على الجهاز العصبي وقد تؤدي إلى الوفاة، أيضا إصابة الأسماك بالطفيليات تنتقل إلى الإنسان إذا ما تناول هذه الأسماك غير المملحة لفترة كافية، وهذا يحدث عند زيادة الطلب على الفسيخ في شم النسيم، حيث يقوم المنتجون بعرض كميات منه دون مرور الفترة الكافية لقتل الطفيليات التي لا تقل عن ثلاثة أسابيع».

وحول الطريقة العلمية الصحيحة لصناعة الفسيخ، يوضح أنه عادة ما يتم عمل التفسيخ أولا لأسماك البوري لمدة من يومين إلى ثلاثة أيام، ثم توضع الأسماك في براميل خشبية أو صفائح مغلقة، ويجب أن تغمر الأسماك تماما في الملح مع عدم ترك أي فراغ يمكن أن يساعد على نمو الفطريات وحدوث التعفن للأسماك. كما يمكن القيام بعمليات التفسيخ داخل الثلاجات وبعيدا عن التلوث بالذباب والأتربة، ثم استخدام البراميل الخشبية الخالية من المحلول الملحي القديم للتخليل.

أما الدكتور أحمد إسماعيل، أستاذ مساعد بقسم الأسماك بالمركز القومي للبحوث، فيبدأ حديثه بالقول: «لو أحسنا تصنيع الفسيخ لاستمتعنا به»، موضحا أن الفسيخ الجيد هو الذي تتجمع في أسماكه صفات العين الزجاجية، والخياشيم الوردية، والبطن غير المنتفخ، وغياب بصمة اليد على جسم السمكة».

وعن استخدام الأفكار العلمية في الفسيخ، يقول: «الأفكار الإبداعية في تصنيع الفسيخ بلا حدود، خصوصا مع التفكير في أسواق لتصديره في فترة عصيبة تعيشها التجارة الدولية، فربما نفكر في فسيخ بالأناناس أو بجوز الهند يتم تسويقه في شرق آسيا، وفسيخ بالبروكلي لتسويقه في أوروبا، وفسيخ بالكيوي أو فسيخ بالمانجو».

ويتابع: «لا مانع من التفكير في المشروب الذي يصاحب هذه الوجبة، وليكن أحد المشروبات المصرية الأصيلة وغير المباشرة في دول أخرى مثل عصير الدوم أو الكركديه أو النعناع المصري، وإيجاد مبرر غذائي لتناوله مع الفسيخ، وإيجاد قصة فولكلورية من التراث الشعبي حول الترابط بين الوجبة والمشروب، وقد يجد الأطباء مبررا صحيا لتناول هذه الوجبة يضيف إليها بريقا بين شعوب تهتم بصحتها ولديها الوعي الكافي للربط بين نوعية الغذاء والحالة الصحية».

ويرى الدكتور إسماعيل أنه سيكون من عناصر النجاح حتى تتحول هذه الفكرة البسيطة إلى مشروع لسلعة تصديرية الاهتمام بإنتاجها كوجبة غذائية متكاملة اعتمادا على فريق من خبراء التغذية، وهو ما يعني أن تطوير هذه الصناعة يعتمد على فريق متعدد التخصصات في مجالات التغذية والتصنيع والتسويق والآثار والصحة والتراث الشعبي. مضيفا: «إنها فكرة بسيطة، ولكن قد ينتج عنها مشروع كبير يفتح أبواب الرزق للمصريين، وبدلا من أن نهدم هذه الصناعة ونعتبر أنها تدمر الصحة علينا أن نطورها».