رحيل صانع الوهم العجيب

راي هاريهاوزن حرك الدمى وألهب المخيلات لأكثر من 60 سنة

فنان المؤثرات الخاصة راي هاريهاوزن
TT

توفي يوم الثلاثاء، السادس من هذا الشهر، فنان المؤثرات الخاصـة راي هاريهاوزن عن اثنين وتسعين عاما. قد لا يكون الجيل الجديد من هواة السينما قد سمع به من قبل، إلا أن إبداعات هذا السينمائي أكسبته شهرة فائقة لأكثر من خمسين سنة مارس فيها عمله في صنع الوحوش والمخلوقات الغريبة وتحريكها أمام الكاميرا بقدرة عجيبة على التخيـل والإتقان معا. ومع أن المؤثرات الحالية المنفـذة على الكومبيوتر (المعروفة بـ CGI) خلفت كل نوع سابق من العمل على المؤثرات والحيل البصرية، إلا أن هاريهاوزن بقي إلهام كبار مخرجي سينما الخيال العلمي وأفلام الكوارث والمخلوقات الغرائبية ومصدر وحيهم الأهم.

* الشغف الكبير

* ولد باسم رايموند فردريك هاريهاوزن في التاسع والعشرين من يونيو (حزيران) سنة 1920 في مدينة لوس أنجليس. منذ نشأته، وحسب اعترافه، ولع بكل ما هو خيالي: «والداي رعيا هذا الشغف غير المعتاد وأنا ما زلت صغيرا. لم يحاولا مطلقا الحد من حبي. كان باستطاعتهما أن يقولا لي: كن طبيبا أو محاميا أو ابحث عن مهنة أخرى تدر عليك المال».

كطفل، كان فن العرائس لعبته المفضـلة، ثم أضاف عليها، تبعا للأفلام التي كان يشاهدها، صنع المخلوقات من الورق أو الدمى. كان باله دائما مشغولا بكيفية صنع ديناصورات كتلك التي زارها في المتاحف مع والديه، أو التي شاهدها على الشاشة الفضيـة. وأهم الأفلام التي تركت فيه تأثيرا كبيرا في تلك الحقبة هو «العالم المفقود» الذي أخرجه سنة 1925 هاري أو هويت، أحد أوائل المخرجين المهتمـين بعالم المخلوقات والمغامرات الخيالية، عن رواية آرثر كونان دويل حول بعثة علمية تنطلق من لندن إلى جزيرة بقصد اكتشافها وتكتشف وجود ديناصورات ما زالت تحيا فوقها. أحد المشاهد التي تركت أثرها في مخيلة هذا الصبي كان ذلك الذي تتصارع فيه الوحوش الديناصورية من فوق جبل يطل على هاوية وكيف يدفع وحش منها الآخر إلى حتفه.

بعد أقل من عشر سنوات تعلق فؤاد هاريهاوزن بفيلم آخر من هذا النوع هو «كينغ كونغ» بنسخته الأم التي أخرجها سنة 1933 كل من مريان س. كوبر وإرنست ب. شودساك (لاحقا تم إنجاز نسختين جديدتين من الحكاية ذاتها واحدة سنة 1976 أخرجها جون غيلرمن والثانية سنة 2005 للمخرج بيتر جاكسون) حول رحلة بحرية تنتهي إلى جزيرة غامضة ما تلبث أن تنبض بالرعب حينما يهاجم وحش على هيئة غوريلا ضخمة سكانها ثم أفراد البعثة التي غامرت بدخول الغابة. بين أفراد البعثة تلك الفتاة الشقراء آن (ماي راي) التي ما إن يراها الوحش حتى يخطفها معتبرا إياها ملكه. يذود عنها دفاعا عن وحوش تاريخية أخرى، لكنها تهرب منه فيهاجم القرية مدمرا إياها في ثورته، إلى أن يسقط مغمى عليه، فيكبـله البيض ويعودون به إلى نيويورك. هناك يفلت من قيوده وينطلق في المدينة مدمرا كل من يهاجمه إلى أن يهتدي إلى «آن» فيخطفها ثانية ويصعد بها برج «ذا إمباير ستايت» مدافعا عمن أحب ضد الطائرات التي أخذت تحاول قصفه.

* السندباد والآخرون

* كما تكشف هذه الكلمات، كان للفيلم شأن كبير لا تبعا لحكايته فقط، بل لنوعية الحكاية وما استخدم فيها من حيل بصرية وتحريك لمخلوق تم صنعه من دمى وتحريكه بخيوط وحبال.

كان هاوزن، وهو في الثالثة عشرة من عمره يدرك تماما أن تلك الوحوش التي شاهدها ليست حقيقية، وهذا ما أثاره تماما وساعده على تحديد وجهته في الحياة: سيصبح أهم فنان مؤثرات وحيل سينمائية من هذا النوع في العالم. وكان له ما أراد.

في سن الثامنة عشرة بدأ العمل على موديلات ديناصورية في مشروع سماه «تطور العالم»، وخلال ذلك التقى بويليس أوبرايان الذي صنع مخلوقات «العالم المفقود» و«كينغ كونغ». منذ ذلك الحين، ولسنوات تالية، أصبح هاريهاوزن معاونا موثوقا به لويليس، يجمعهما حب صنع وتحريك مخلوقات ووحوش ما قبل التاريخ.

السينمائي الآخر الذي عمل هاريهاوزن معه في مرحلة ما بعد ويليس هو جورج بال، وهو مصور ومنتج ومخرج ترك النمسا ولجأ إلى هوليوود مع بداية الحرب العالمية الثانية، وهاريهاوزن عرف أنه يهوى صنع أفلام التحريك، وانضم إليه ليكتشف أن طريقة تحريك بال لمخلوقاته تختلف عما في باله هو.

في عام 1942 ترك هاريهاوزن العمل وانضم إلى الجيش حتى عام 1945. لفترة لم يجد هاريهاوزن عملا، هذا قبل أن يطلبه أوبرايان ثانية للعمل هذه المرة على فيلم مشابه لـ«كينغ كونغ» عنوانه «جو يونغ الشاب»، قام بإخراجه إرنست شودساك.

باقي الطريق كان صعودا من هنا: في الخمسينات باشر استقلاليته الكاملة وأنجز من ذلك الحين عددا كبيرا من الأفلام، مطورا أسلوبه إلى حد جعله أستاذا للمؤثرات غير المصنوعة إلكترونيا، أو بواسطة خدع الكاميرا ذاتها. أسلوبه ذاك قام على صنع الدمى ثم تحريكها أمام الكاميرا حسب خطـة تقتضي تحريك جزء صغير منها صوب الوضع الجديد لها، ما يخلق وهم أنها تتحرك. المخلوق ذو رأس الأفعى في «الرحلة الذهبية للسندباد»، على سبيل المثال، إذا ما أراد رفع يده قليلا فإن الكاميرا ستلتقط، في صور ثابتة، يده وهي منخفضة، ثم تلتقط صورا أخرى ارتفعت بمقدار طفيف، ثم أخرى مع كل حركة طفيفة أخرى. هذا النوع التفصيلي يأخذ أشهر عمل طويل، فما البال بباقي حركات ذلك الجسد؟ ماذا عن الأفاعي الصغيرة التي على رأس المخلوق والتي عليها أن تداوم الحركة، كل باتجاه مختلف ومستقل، جنبا إلى جنب الحركة الأساسية المطلوبة؟ وماذا عن الأيدي الست، لمخلوق آخر، وهي تحارب بستة سيوف عليها جميعا أن تتحرك في الوقت نفسه؟

* السندباد وصحبه

* «الرحلة الذهبية للسندباد» (إخراج غوردون هسلر سنة 1973) كان واحدا من ثلاث رحلات سندبادية عمل عليها هاوزن، أولها «الرحلة السابعة للسندباد» (ناتان جوران - 1958) والأخير «السندباد وعين النمر» (سام واناماكر - 1977) وهو أفضلها، لكن عمل هاريهاوزن يبقى ساطعا أيضا في أفلام أسبق مثل «الوحش من 20.000 قامة» ليوجين لوري (1953) الذي لا نزاع أنه كان من أكثر أفلام الفترة إتقانا في هذا الشأن. بعده بعامين صنع مخلوقات «جاء من تحت الماء» (إخراج روبرت غوردون)، وفي كليهما حركات بالغة الإتقان لوحشين ضخمين ينقلان هوس هاريهاوزن المزمن بمخلوقات ما قبل التاريخ. وواحد من آخر أعماله الكبيرة ذلك الذي نفـذه سنة 1981 بعنوان «صدام العمالقة» كما أخرجه دزموند ديفيز، حيث القتال بين المخلوقات الإغريقية، ثم بينها وبين أبطال الفيلم، لا يترك مجالا للشك في أن هاريهاوزن كان مدرسة منفردة في مستواها.

وسواء أكنا نشاهد قتال السندباد ضد الهياكل العظمية أو خروج الوحش النائم في أعماق البحار إلى اليابسة ليدمـر مدينة لندن، أو قتال مخلوقات إغريقية أخرى، فإن ما صنعه راي هاريهاوزن هو إنجاز فريد وغير مسبوق بإتقانه على الأقل. الباحث في حياته سوف يشعر بمحاولة المقارنة بين ما حققه في أفلامه بطريقته اليدوية، وبين ما تحققه سينما المؤثرات المصنوعة بالغرافيكس اليوم، ليجد أن للأولى حياة تختلف تماما. «صراع العمالقة»، على سبيل المثال، أعيد صنعه قبل ثلاث سنوات، لكن احزر: أي من هاتين النسختين هي التي تحولت إلى واحد من كلاسيكيات النوع الغرائبي؟