حرف يدوية دمشقية تراثية مهددة بالاندثار

بسبب الأحداث الدامية والحرب وغياب السياح وسفر العاملين للخارج

الحرب أثرت على الشباب الدمشقي العامل في مجال الحرف اليدوية التراثية (« الشرق الاوسط»)
TT

اشتهر الدمشقيون منذ مئات السنين بمهارتهم في الصناعات اليدوية وإبداعاتهم في مجال الحرف والمنتجات التي تعتمد على يد وخيال الحرفي، حتى أن العديد من المؤرخين حاول في مؤلفاته الغوص في هذه الحرف وتأريخها ولا سيما في المنسوج الموشى المنسوب إليها عند الإفرنج باسم «دامسكو» نسبة لدمشق، فكان يحاك من الحرير ويرقش بصور الأثمار والأزهار والحيوانات والحقول. كذلك اشتهرت بالدهان والنسيج والدباغة والترصيع بالصدف المعروف بالتطعيم وغير ذلك. وعند الغزو التتري أخذ تيمور لنك قبل 700 سنة كل ماهر بالحرف اليدوية ونقلهم إلى آسيا الوسطى.

وقد واصل ما تبقى من الحرفيين الدمشقيين العمل في حرفهم التي توارثوها أبا عن جد حتى عصرنا الحالي حيث جذبت منتجاتهم السياح من مختلف أصقاع الدنيا وخصص لهم في بداية سبعينات القرن الماضي سوق تراثية في مبنى التكية السليمانية التاريخي وسط دمشق وأقيمت المعارض. كما عملوا في ورش وجدت بمنطقة باب شرق. ولأن الأمكنة داخل دمشق لم تعد تتسع لورشهم أسس العشرات منهم ورشا في قرى الريف الدمشقي كما خصص هؤلاء قطعة أرض في منطقة باب شرق على أطراف دمشق الشرقية لإقامة قرية تراثية تحتضن ورشهم وإبداعاتهم لم تر النور حتى الآن.

ومع انطلاقة الأحداث في سوريا والحرب التي تشهدها البلاد تأثر الحرفيون اليدويون ومنتجاتهم وعملهم بشكل كبير خاصة أولئك الذين وجدوا في الريف الدمشقي حيث الأحداث الدامية والعاصفة والمعارك المتواصلة يوميا في قرى الغوطة الدمشقية، بالإضافة إلى غياب السياح عن دمشق وانعدام المعارض وصعوبة نقل منتجاتهم اليدوية بين الطرق بسبب الحالة الأمنية الصعبة. وساهم كل ذلك في انخفاض منتجات هؤلاء الحرفيين مما جعلهم في وضع معيشي واقتصادي صعب فاضطر العشرات منهم للسفر إلى خارج البلاد بحثا عن دخل مقبول ليعينوا أسرهم.

يجلس خلدون مسوتي، وهو أحد أبرز حرفيي دمشق اليدويين في مجال صناعة الفسيفساء التي ورثها عن أسرته، خلف طاولته في ورشته بمنطقة باب شرق يدخن النارجيلة - حيث لا يوجد زوار أو سياح أو زبائن يأتون إلى ورشته التي كانت تعج بهم قبل بدء الأحداث.. وعلى جدران ورشته علقت أعمال كبيرة من الفسيفساء اليدوي التي أبدعها حيث تنتظر منذ بدء الأزمة من يقتنيها أو أن تعرض في معارض داخل البلاد التي توقفت بسبب الحرب كما توقفت المشاركة في المعارض الخارجية. يتنهد خلدون وهو يشرح لنا تأثير الحرب والأحداث الدامية على عمله اليدوي وعلى زملائه قائلا: «من المعروف أن السياح الذين كانوا يزورون دمشق يضعون في رأس برنامجهم زيارة البيوت الشامية التقليدية لمشاهد إبداعات الحرفيين ومن ثم زيارة ورشهم ومشاهدتهم وهم يبدعون بأناملهم وأيديهم واقتناء ما يعجبهم منها. وهؤلاء هم الذين يعملون في مجال المهن اليدوية التراثية التقليدية ولكن مع غياب السياح بسبب الأحداث والحرب غاب أهم عنصر داعم لهؤلاء الحرفيين».

ويوضح خلدون مسوتي، وهو الذي اختاره زملاؤه رئيسا لجمعية «شام الياسمين» الأهلية لحماية المهن التراثية والعاملين فيها التي تأسست سنة 2010 كجمعية غير حكومية تضم الحرفيين التقليديين، أنه «حتى أكون دقيقا معك في التوصيف فإن الأحداث أثرت على الحرفيين التراثيين والذين يعملون في مهن متوارثة وعريقة ومعروفة في دمشق منذ آلاف السنين. وقد قمنا في الجمعية بحصرها بشكل دقيق حيث وصل عددها إلى 33 حرفة (تم توثيقها عام 2005 من قبل اتحاد الحرفيين والطلب بتسجيلها في قائمة التراث العالمي لحمايتها) من أبرزها صناعة المنسوجات اليدوية التراثية كالبروكار والآغباني والفسيفساء والنحت والموزاييك والتصديف الخشبي والخط العربي (والمعروف بالعجمي) والنقش وصناعة الفسقيات والأرضيات الرخامية المزخرفة المعروفة باسم الخيط العربي والقيشاني والأبلق والزجاج اليدوي بطريقة النفخ وصناعة السيف الدمشقي، وغير ذلك من هذه الحرف التراثية. هذه الحرف جميعها تقرر بجهود جمعية (شام الياسمين) مع محافظة المدينة أن تضمها منطقة واحدة قرب دمشق في تنظيم شرق باب شرق وهي القرية التراثية، المشروع الأهم والكبير لحمايتها ولكن الأحداث أوقفت المشروع مؤقتا وجمدته مع أنه تم تخصيص لكل حرفي قطعة أرض (استثمار) لتشييد ورشته عليها. وكان من أبرز ما ستنفذه هذه الورش ضمن القرية هو قيام الحرفيين المخضرمين وشيوخ الكار بتعليم حرفهم للشباب للمحافظة على استمراريتها وإحيائها من جديد ولكي لا تبقى حصرا فقط على أبنائهم، خاصة أن بعض أبناء الحرفيين لم يقبل العمل بها لمردودها المالي القليل مقارنة بنشاطات اقتصادية وتجارية أخرى وصعوبة العمل فيها. والمعروف أن من لا يحب هذه المهن لن يبدع فيها!».

إن بيع المنتجات الحرفية التقليدية انخفض كثيرا أيضا بعد الأحداث - يتابع خلدون - خاصة أن الكثيرين ينظرون إليها على أنها سلع ترفيهية وليست ضرورية كالغذاء والألبسة ولهذا السبب انخفض دخل الحرفي اليدوي التراثي مما اضطره للسفر لبلدان الخليج والأردن ولبنان للعمل هناك. وما تبقى من الحرفيين - وأنا منهم - لم يبق أمامنا سوى الصبر وحماية منتجاتنا من السرقة خاصة أنها ذات قيمة مادية ومعنوية كبيرة حيث ننقلها إلى أماكن أكثر أمنا في دمشق.

الحرب والأحداث أثرت أيضا على توفر المواد الأولية اللازمة لحرفنا التراثية - كما يوضح خلدون - حيث هناك صعوبة بالحصول عليها من أماكن وجودها في المحافظات أو في المناطق الريفية نتيجة خطورة التنقل على الطرقات العامة، كذلك أثرت الأحداث الدامية على حالتنا النفسية، فالحرفي حتى يبدع عمله الفني عليه أن يكون مرتاحا نفسيا وهذا ما افتقده بسبب الأحداث الدامية التي تشهدها البلاد. كما أن العديد من الحرفيين اليدويين فقدوا ورشهم ومحلاتهم بسبب الحرب الدائرة في مناطق الريف وفي حارات شعبية مثل جوبر والقابون وبرزة، إذ كانوا يمتلكون محلات فيها وورشا يعملون بها.

ويشير خلدون متنهدا إلى أن منتجات بعض الحرفيين العاملين في بعض هذه المناطق في مجال الخشب المصدف حولها البعض لوقود تدفئة! من معلم إلى عامل بورشة!.. حكايات وقصص كثيرة يرويها هؤلاء المبدعون عن تأثير الحرب عليهم وعلى معيشتهم وعلى منتجاتهم. حامد الذي كان يمتلك ورشة لصناعة الفسقيات والفسيفساء والبحرات الرخامية (الخيط العربي) في منطقة القابون شمال دمشق وهي من المناطق الساخنة، اضطر لترك ورشته. يوضح: «أعمل في ورشتي منذ 15 عاما ولدي عدد من الشغيلة الذين علمتهم هذه الحرفة، اضطررت بسبب الأحداث والحرب إلى ترك ورشتي التي لا أعرف ماذا حل بها، والعمل كعامل عادي في ورشة بمنطقة باب شرق لتأمين حد أدنى من متطلبات أسرتي، بينما سافر معظم من كان يعمل معي إلى الخارج بحثا عن مصدر رزق».

الزجاج اليدوي بطريقة النفخ التي عرفت بها عائلة «القزاز» الدمشقية حيث لم يبق سوى ورشة واحدة تعمل بها في باب شرق وكان السياح يتجمعون أمام من ينفخ في الورشة لمشاهدة عمله بكثير من الدهشة والإعجاب - يقول خلدون مسوتي - من المؤسف أنهم توقفوا عن عملهم منذ أشهر بسبب ارتفاع أسعار الوقود، حيث يحتاجون للمازوت في عملهم.