«كان» ليس لكل الناس؟

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي الدولي( 2 )

أليك بولدوين
TT

«ربما من حق كثيرين من الذين يحضرون (كان) هذا العام الشعور بأنهم - وإلى حد كبير - متميّزون بشيء واحد: بقدرتهم، أو بقدرة المؤسسات التي بعثت بهم، على تحمّل نفقات المجيء والسكن والعمل».

يقول الصديق بيتر غارغِن، سكرتير عام اتحاد نوادي السينما الدولي العائد حديثا من الاجتماع الذي عقد في منتجع «حمامات» التونسي. لماذا؟ «عدد من النقاد البريطانيين لن يستطيع التوجّه إلى المهرجان لأن صحفهم قررت أن لا تغطيه إلا عبر الوكالات».

«التايمز» لن ترسل ناقدها، كذلك «ذ فايننشيال تايمز» و«ذ إندبندنت»… وربما حسبما سمعت «ذ ديلي تلغراف». الغلاء هو السبب.

هذا الناقد هو واحد من الذين باتوا يتمنّون تراجع عدد الحضور لهذا السبب بالتحديد: الغلاء. تلك التكلفة الباهظة التي على المرء تحمّلها إذا ما قرر، هو أو مطبوعته، حضور هذا المهرجان العتيد، لم تعد طبيعية. ربما إذا ما انحسر العدد ليس بين الصحافيين والإعلاميين فقط، بل كذلك بين السينمائيين أنفسهم، لأدركت المدينة مغبّة هذا الجشع التي تسمح به خلال كل دورة من دورات هذا المهرجان. الواصل إلى مطار نيس يبدأ بالدفع حالما يحط على أرض المطار. التاكسيات بالانتظار والمسافة طويلة والعدّاد دائر.

والواصل ينتهي بالدفع حالما يغادر المدينة عائدا إلى المطار. وهو يدفع كل يوم أسعارا مرتفعة لكل ما يمكن له أن يشتريه بنصف الثمن أو أقل على بعد كيلومتر واحد من المدينة، أو - بالأحرى - من ذلك الجزء من المدينة.

التبعات ليست وقفا على الأفراد والمؤسسات الصحافية. الشركة التي كانت ترسل دزينة من طاقمها أخذت ترسل أعدادا أقل. بعض الشركات الأميركية الكبرى لم تكترث للحضور هذا العام أساسا. المجلات اليومية التي تصدر في «كان» بغاية استحواذ الإعلانات على صفحاتها اليومية انتدبت هذا العام عددا أقل من العام السابق من المحررين والإداريين، وهي التي كانت في العام السابق خفضت كم هؤلاء إلى النصف. خذ مجلة «فاراياتي» الشهيرة… في العام الأسبق كان لديها مكتبان في المباني المجاورة لـ«غراند هوتيل». في العام الماضي ألغتهما. لم تلغ واحدا، بل ألغتهما معا. وهذا العام لا يُنتظر افتتاحهما بل ستكتفي بمن تبعث بهم ليعملوا من مساكنهم.

ربما لو خفّت الرجل قليلا، لأدرك أهل المدينة أن عليهم تغيير حساباتهم خصوصا في عالم بات مليئا بالبدائل.

* أفلام «كانية» تثير الاهتمام وتطرح بدائل

* بعيدا عن التهليل للكبار فقط

* قبل عامين شوهد الممثل أليك بولدوين وهو يسير وراء مدير تصوير في سوق المهرجان. يوجهه وينبهه ويهمس في أذنه بالتعليمات. الموزّعون والمنتجون القابعون في مكاتبهم تساءلوا ما إذا كان الممثل يريد تحقيق فيلم تسجيلي، أو إذا ما كان منتدبا من قبل مهرجان «كان» لكي يصوّر بعض نشاطاته.

بعد ذلك تم تجاهل المشهد ورأينا أليك بولدوين يدخل ويخرج من أفلام وحلقات تلفزيونية ولا شيء عن ذلك الجهد الذي كان يبذله. هذه السنة يطالعنا فيلم بعنوان «مغرر به ومهجور»، فيلم تسجيلي يعرض خارج المسابقة، في قسم بعنوان «عروض خاصّة» ويحمل اسم أليك بولدوين وجيمس توباك كصانعي هذا الفيلم.

يدور حول المهرجان من حيث إن محط الفن والمال معا. جمال الأشياء وقسوتها. حيويّتها وموتها في آن معا. يلتقي أليك بولدوين ببعض المخرجين ذوي البصمة الكبيرة: مارتن سكورسيزي، فرنسيس فورد كوبولا، رومان بولانسكي وبرناردو برتولوتشي. كما يلتقي بممثلين من الذين شقوا طريقهم بنجاح في السنوات القليلة الماضية ومن بينهم جسيكا شاستين ورايان غوزلينغ. والغاية، رسم صورة حول الجهد والبذل والفن و«بزنس» الفن أيضا. توباك، الذي كوّن اسما في بعض الأفلام السبعيناتية أنجز قبل هذا الفيلم عملا تسجيليا آخر هو «تايسون»، عن الملاكم مايك تايسون ملأه حديثا مكررا حول الملاكم وعشقه للحمام حيث جمع منها مئات فوق سطح منزله.

لكن هذا الفيلم يعد بأن يكون مختلفا كذلك هو واحد من عشرة أفلام أخرى تثير اهتماما خاصّا هنا لمواضيعها كما لخلفيات مخرجيها وقد تحمل المفاجآت السارّة الحقيقية التي يحتاجها المهرجان والمتواجدون فيه. التسعة الأخرى التي يمكن تسميتها من الآن هي:

* نبراسكا Nebraska

* كتب المخرج ألكسندر باين سيناريو هذا الفيلم مباشرة بعد انتهائه سنة 2002 من تحقيق فيلمه الرائع «حول شميت»، وحاول تنفيذه أكثر من مرّة لكن رغم نجاح أفلامه النسبي ولمعان اسمه في إطار السينما المستقلة، وآخرها «الأحفاد» قبل عامين، فإن مشروعه كان يتأجل عاما بعد عام بسبب أن الموضوع لا يبدو مشجعا: بروس ديرن، وهو من مخضرمي التمثيل منذ أن وقف أمام الكاميرا في مطلع الستينات، يؤدي دور العجوز الذي حيّر العائلة بمحاولاته التوجه إلى نبراسكا إيمانا منه بأنه ربح جائزة هناك. في نهاية المطاف، يقرر أحد ولديه (ول فورت) اصطحابه إلى هناك لعلّه يرضي فضوله ويحمله على الاعتراف بأنه لم يربح جائزة مالية في ألعاب الحظ كما يعتقد. الفيلم هو فيلم طريق، ومصوّر بالأبيض والأسود من قِبل فيدون بابامايكل (صور لباين «الأحفاد»، لكن سجلّه حافل بالأعمال ومنها «لوريل كانيول»: «3:10 إلى يوما» و«فارس ويوم».

عواقب الحب La Grande Bellezza هناك لمحات من الملامح الهزلية التي كان فديريكو فيلليني يرسمها حول شخصياته في هذا الفيلم الجديد للإيطالي باولو سورنتينو الذي تعود علاقته بمهرجان «كان» إلى سنة 2004 عندما قام بإخراج «عواقب الحب» وبعد ذلك عاد للمسابقة في «صديق العائلة» وأنجز إعجابا أعلى من السابق في «لا بد أنه المكان» (2011) لكن مقدّمة الفيلم التجارية تنبئ بعمل ربما كان أفضل أفلامه إلى اليوم. الملخص المنشور في دليل المهرجان لا يتحدّث عن القصّة لكن المشاهد المنتقاة للتريلر توفّر ما يكفي من دلالة من أن هذا الفيلم سيكون مفاجأة، صغيرة أو كبيرة.

* المهاجر The Immigrant

* لا أحد يعرف سر حب الفرنسيين للمخرج الأميركي جيمس غراي. الناقد الأميركي تود مكارثي على شاشة «ذ هوليوود ريبورتر» يسأل ويعترف بأنه لا يعرف، وزميله البريطاني جوناثان رومني يطرح السؤال نفسه في «ذ إندبندنت» وكلاهما، وسواهما، لا جواب لديهما لسر هذا العشق الذي دفع بمهرجان «كان» سابقا لتبني غراي أكثر من مرّة: سنة 2000 عندما قدّم «الياردات» (وكان فيلم المخرج الثاني بعد غيبة طويلة من عام 1994 حين أنجز «أوديسا صغيرة») وسنة 2007 حين قدّم «نملك الليل» ثم بعد عام واحد عندما حقق «عاشقان»، هذه السنة يعود بفيلم مختلف عن أعماله السابقة من حيث إنه مقطوعة تاريخية تقع أحداثها في العشرينات وتتحدّث عن هجرة بطله برونو وايز (واكين فينكس كما في معظم أفلام غراي) واشتغاله السريع لصالح تحقيق الثراء ولو عبر دفع الفتاة التي أحبّته إلى الخطيئة.

* عمر

* هاني أبو أسعد من أفضل المواهب العربية حاليا. ليس فقط كونه حقق «الجنّة الآن» الذي وصل إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية سنة 2006. بل كونه أيضا سبق أترابه الفلسطينيين الآخرين في الوصول إلى ذلك المحفل. ذلك الفيلم كان عن شابّين تتنازع أحدهما الرغبة في تفجير نفسه، بينما يتراجع الأول عن هذا الاختيار. الفيلم الحالي: «عمر» يعد بأن يتمحور حول نوع آخر من التردد: هل يضحّي عمر بحبّه أو بنفسه؟ إنها حكاية شاب (آدام بكري) يجيد التسلل عبر الجدار والرصاص حبّا بنادي (ليم لباني) لكنه يقع في قبضة الجيش الإسرائيلي ويتعرّض لتحقيق مطوّل في حين يتردد بين الفلسطينيين أنه وافق على أن يكون عميلا لقاء كسب حرّيته. سنرى حين يعرض هذا الفيلم في مظاهرة «نظرة ما».

* أرض الفلفل My Sweet Pepper Land

* هاينر سليم مخرج كردي دؤوب حقق وقدّم في «كان» كما في سواه من المهرجانات الرئيسية عددا من الأفلام اللافتة مثل «كيلومتر زيرو» و«فودكا ليمون» و«إذا مت سأقتلك» الذي كان يستحق سيناريو أفضل من ذاك الذي اشتغل عليه. هنا يترك أوروبا وآسيا اللتين شغلتا معظم أعماله ويعود إلى كردستان العراق حيث يقدّم حكاية بطل كردي ناضل ضد صدّام حسين وانتهى أمره فيما بعد مشرفا على بلدة تقع على الحدود العراقية - التركية - الإيرانية. هاينر دائما ما لديه مفاجأة من صميم العمل. هي في طريقة تفكيره وفي طريقة كتابته وتغليفه المواد الجادّة التي في باله بمواقف ساخرة، ولا يُنتظر لهذا الفيلم الذي يعرض في مظاهرة «نظرة ما» سوى ذلك.

* لمسة خطيئة A Touch of Sin

* «لمسة خطيئة» هو الفيلم الجديد (والطويل: 133 دقيقة) للمخرج الصيني جيا جانغكي من إنتاج صيني- ياباني مشترك ويدور حول 4 شخصيات مختلفة في 4 حكايات لا ندري إذا ما كانت ستتداخل أو أنها ستتوالى، لكن المخرج الذي يعود لحاضرة المهرجان للمرّة الرابعة منذ عام 2002 عندما قدّم «ملذّات غير معروفة»، يقول: إنه سعى لتقديم حكاياته هذه لتصوّر الواقع الذي تعيشه الصين اليوم، وهو واقع دائما ما كان يعمل على نقده سمات المجتمع الصيني المعاصر وعلى نحو حزين. المثير للاهتمام هو أن أفضل أعماله لم يعرض على شاشة «كان»، بل شهده مهرجان «فينسيا» وكان عنوانه «حياة ثابتة» (Still Life) الذي خرج من هناك بذهبية المهرجان سنة 2006.

* كل شيء ضاع All Is Lost

* أفلام الرجل الوحيد المبحر في المحيط من بين الأصعب تحقيقا. خذ «العجوز والبحر» رائعة إرنست همنغواي على الورق وانظر إلى كيف تبلورت فيلما سنة 1958 أقل أهمية من الرواية رغم حنكة المخرج جون سترجز. ثم انظر إلى نجاح آنغ لي في «حياة باي» (ولو أن الآدمي هنا محاط بالحيوانات) مقابل الرحلة السينمائية غير الموفّقة كثيرا لفيلم حديث آخر هو «كون - تيكي». هذا كلّه لا يُخيف المخرج الأميركي الجديد ج. س شاندور الذي قدّم أوراق اعتماده بنجاح في مهرجان برلين قبل عامين حينما عرض في مسابقته فيلمه الأول «نداء هامشي» (مليء بالشخصيات الرئيسة على عكس هذا الفيلم). «كل شيء ضاع» قصّة رجل، يقوم به روبرت ردفورد، كان في ملاحة عادية في البحر ليس بعيدا عن الشاطئ عندما جرفه حادث بحر إلى عرض البحر ولم يستطع العودة إلى حيث كان. لك أن تتصوّر عملا لا ينص إلا على ذلك الرجل وحيدا في المحيط ومحاولاته البقاء على قيد الحياة و- يا باز لورمان - من دون حاجة لتعليق صوتي يؤكد ما ليس هناك حاجة لتأكيده.

قفص الذهب La Jaula de Oro رحلة أخرى سنراها في «قفص الذهب» المكسيكي لمخرج مكسيكي جديد اسمه دييغو كويماد - دياز سبق له أن أدار تصوير أكثر من عشرين فيلما مكسيكيا وأميركيا من بينها «21 غرام» لستيفن سودربيرغ و«رجل على نار» لتوني سكوت. الرحلة المذكورة قوامها 4 شخصيات (يبدأ الفيلم بثلاثة منها ثم ينضم الرابع لاحقا) تسعى لمستقبل جديد وتحلم بتحقيقه في أميركا. حسب قول المخرج هو ليس فيلم آخر عن الحلم الأميركي، بل فيلم عن متاعب الحياة للمكسيكيين التي تدفعهم للجوء إلى ذلك الحلم. هذا الفيلم من أعمال «نظرة ما» أيضا.

غريغريس Grigris غريغريس هو اسم بطل هذا الفيلم الجديد لمحمد صالح هارون، سينمائي مختلف عن أترابه ولد في تشاد وباشر تحقيق أفلامه في أواخر التسعينات حين قدّم آنذاك «باي باي أفريقيا». فيلمه التالي «أبونا» كان مفاجأة طيّبة حين عرضه قسم «نصف شهر المخرجين» في كان سنة 2002. وفيلمه الأخير «رجل يصرخ» خطف جائزة لجنة التحكيم الخاصّة في دورة عام 2010 من هذا المهرجان. الآن يعود بموضوع شاق حول شاب (اسمه غريغيس ويؤديه سليمان ديمي) يعاني ساقا مشلولة لكنه يحاول تجاهل هذه الحقيقة في مسعاه ليكون راقص باليه. قوام هذا الفيلم رصد حياة وأحلام وهو أحد الأفلام المتسابقة في هذه الدورة.

* سنوات السينما

* رومان بولانسكي على شاشة «كان» يعرض المخرج الفرنسي (البولندي المولد) رومان بولانسكي فيلمه الجديد «فينوس في القراء» داخل المسابقة. هذه المرّة الخامسة التي يقدّم فيها بولانسكي فيلما له في إطار المهرجان ككل. المرّات السابقة:

«ماكبث» (1972): فيلم بولانسكي الجيّد هذا شهد عروضه خارج المسابقة.

«المستأجر» (1976): دراما داكنة تعيد طرح هواجس المخرج الاجتماعية - داخل المسابقة.

«قراصنة» (1986): من إنتاج التونسي طارق بن عمّار وبطولة الراحل وولتر ماثاو - خارج المسابقة.

«عازف البيانو» (2002): عودة رائعة لبولانسكي تمثّلت بهذه الدراما التي استحقت السعفة الذهبية.

إلى ذلك كان عضو لجنة التحكيم سنة 1968 (السنة التي غابت فيها الجوائز تبعا لأحداث ثورة ربيع ثقافية) ورئيسها سنة 1991 عندما ذهبت السعفة الذهبية إلى الأخوين إيثان وجووَل كووَن عن فيلميهما «بارتون فينك».