قطارات العراق تضيع في أنفاق السياسة

ما زال يستخدم السكك الحديدية التي بناها الألمان سنة 1914

عراقي يعاين قطارين في محطة القطارات الكبرى في بغداد (رويترز)
TT

لم يعد بإمكان جيل القرن الحادي والعشرين أن يتغنى بأغنيات «نازل يا قطار الشوك ومرينا بيكم حمد واحنا بقطار الشوك»، وغيرها من أغنيات ستينية، نالت شهرة واسعة واحتلت مكانة مهمة في ذاكرة العراقيين، ليس لأنها قديمة، بل لأن القطار الذي تغنت به تلك الأغنيات غاب عنها، وفقد كل مقومات جماله ودلالاته، بعد أن شاخت عرباته وخطوطه، وتعثرت خطواته، ولم تنفع حملات الصباغة الأخيرة التي غيرت لونه في انتشاله من واقعه، كأحد أهم طرق النقل بين العاصمة بغداد وبقية المحافظات العراقية، وأهم المدن القاطنة قرب خطوطها والتي تربط البلاد من شمالها لجنوبها.

وتشكو معظم خطوط السكك الحديد في العراق من إهمال كبير بسبب الحروب وتقادم السنين وتعرضها إلى أعمال السلب والنهب بعد عام 2003، ورافق ذلك عدم استحداث طرق جديدة أو تجديد عرباتها ومحركاتها أمام تزايد الحاجة لها، الأمر الذي سبب هجرها وتفضيل طرق النقل البرية والبحرية، وهي تعاني من بطئها وقدمها، وعطل أنظمة الإشارات والاتصالات بما يؤدي إلى انخفاض السرعة التشغيلية لها إلى مستويات متدنية وتعريض سلامة الركاب والبضائع إلى الخطر، كما أنها لا تزال تستخدم وقود الديزل في عملها وبالتالي فهي لا تواكب القطارات الحديثة ذات السرعات العالية التي تعمل بالطاقة لكهربائية.

وكان العراق قد شهد مد أول خط حديدي لعربات الترام عام 1869، عندما أقام الوالي العثماني مدحت باشا شركة «ترامواي بغداد - الكاظمية المساهمة»، واستخدمت الخيول لجر العربات وقتها، وكان يعرف لدى العراقيين بـ«الكاري»، ثم أنشئ في ما بعد خط مشابه يربط مدينة النجف الأشرف بمدينة الكوفة، وحققت هذه الشركة أرباحا كبيرة آنذاك قدرت بـ100 في المائة من رأسمالها الأصلي، وبعد ذلك نالت ألمانيا امتيازا من الحكومة العثمانية لإنشاء سكة حديد بنظام قياسي يبدأ من حيث تنتهي سكة حديد الأناضول.

وزارة النقل العراقية أعلنت في وقت سابق عن حاجة البلاد إلى 40 مليار دولار لإنشاء شبكة سكة حديد متطورة، وقد أنجزت التصاميم التي نفذت من قبل شركات عالمية، لإنشاء شبكة سكة حديد متطورة تعمل بالطاقة الكهربائية وتغطي جميع المحافظات والأقضية العراقية وبسرعة تصل إلى 250 كيلومترا في الساعة للمسافرين و160 كيلومترا في الساعة للبضائع، لكن المشروع وكونه من المشاريع الاستراتيجية لم يزل داخل قبة البرلمان العراقي، بانتظار توافقات الكتل السياسية والمصادقة عليه وتمويله على أساس الدفع بالأجل، كونها - أي الوزارة - لا تستطيع أن تمول مشروعا كبيرا من خلال موازنتها الاستثمارية السنوية.

المهندس سلام جبر، معاون مدير عام الشركة العامة للسكك الحديدية، قال «تشكلت أول إدارة للسكك الحديدية في العراق في سبتمبر (أيلول) من عام 1916، وكانت آنذاك تحت سيطرة الجيش البريطاني، ثم انتقلت إلى إدارة مدنية بريطانية عام 1920، لتتحول إلى إدارة مدنية عراقية في سنة 1936، والذي أصبح في ما بعد عيدا سنويا للسكك العراقية. وأضاف «لدينا خطة طموحة لإعادة بناء منظومة شبكة سكك الحديد على غرار التطور في المجال النفطي والقطاعات الأخرى، وتبلغ كلفة هذه المشاريع 60 مليار دولار، ستؤتي ثمارها خلال الأعوام الخمسة القادمة، وستسهم هذه المشاريع بنقل نحو 25 مليون طن سنويا من البضائع».

ولفت «الهدف من هذه المشاريع هو تسهيل حركة المسافرين، والنهوض بالاقتصاد الوطني عبر إمكانية تفريغ البضائع القادمة من آسيا في الموانئ الجنوبية ونقلها عبر سكك الحديد إلى مدينة زاخو وإلى أوروبا عبر تركيا»، مبينا أن «العراق سيصبح نقطة ترانزيت لنقل البضائع والتي تستغرق 24 ساعة فقط بدلا من الرحلة الطويلة إلى قناة السويس والبحر المتوسط، ويبلغ طول خطوط سكك الحديد الحالية في العراق نحو 2000 كم، ومن المؤمل أن تصل في النهاية إلى 10000 كم بخطوط مزدوجة تصل جميع مدن العراق الرئيسة بالدول المجاورة». وأكد جبر أن «الشركة تقوم أيضا ببناء خط سكك جديد مواز للخط القديم بين بغداد والبصرة بكلفة تصل إلى 700 مليون دولار، ومن المؤمل أن يدخل الخدمة بنهاية هذا العام ليرتفع عدد المسافرين إلى 2000 - 3000 مسافر على طريق بغداد البصرة بدل نحو 250 مسافرا يوميا في الوقت الحالي».

وبشأن القطارات الجديدة التي من المؤمل دخولها العمل، قال سلام جبر «العراق وقع العام الماضي صفقة مع الصين لاستيراد 10 قطارات بقيمة 115 مليون دولار»، مشيرا إلى أن « كل قطار يستوعب نحو 450 مسافرا، وتصل سرعته من 140 إلى 160 كم/ ساعة، وبانتظار وصول قطارين خلال الأيام القادمة».

أما المقطورات فقد تمكنت الشركة من تحديثها، حيث تسلمت 30 قاطرة حديثة من روسيا بعد عام 2003، وتم شراء 12 عربة قاطع وبكلفة ثمانية ملايين دولار من شركة «مابكت» التركية التي تقوم بتغذية القطار بالكهرباء والماء والتكييف.

وشكا جبر من سوء استخدام المواطنين للقطارات، وتخريبها، إضافة إلى تعرضها للرمي بالحجارة خلال مرورها ببعض المدن والمناطق السكنية القريبة من خطوط السكك الحديد، والأسوأ من ذلك هو المعابر غير النظامية التي تنشئها الشركات والدوائر القريبة على خطوط السكك، مما يسبب الأخطار بالنسبة لركاب القطار أو ركاب العربات المتجاوزة.

تاريخ حركة القطارات في العراق يشير إلى أن أول رحلة تم تسييرها كانت من بغداد إلى سميكة الدجيل إلى الجنوب من مدينة سامراء عام 1914، بينما تم تسيير أول قطار بين بغداد والبصرة عام 1920، وأول قطار بين بغداد وكركوك عام 1925، وأول قطار بين بغداد والموصل عام 1940، وأول قطار من العراق إلى محطة حيدر باشا في اسطنبول في 15 يوليو (تموز) عام 1940.

يقول مدير إعلام الشركة العامة للسكك الحديد جواد الخرسان إن «العراق ما زال يستخدم السكة الحديد التي بناها الألمان سنة 1914 وطورها البريطانيون سنة 1916 أثناء استعمارهم للعراق». ويشير إلى «بناء سكة حديد واحدة ذهابا وإيابا حيث يتبادل القطاران أماكنهما في المحطات التي يقفان بها على الطريق». وعلى الرغم من حاجة العراق للسكك الحديدية لما تقدمه من خدمات رخيصة في نقل المسافرين والبضائع من محافظة لأخرى، فإن هذا القطاع الحيوي بقي مهملا لسنوات عديدة بسبب الحروب واضطراب الأوضاع في البلاد.

أم تيسير (55 عاما)، معلمة، قالت لـ«الشرق الأوسط»: «القطار كان متعة للعراقيين في سنوات مضت، ولديهم قصص كثيرة معه، جمع عشاقا وشهد وداع آخرين لبعضهم، وترسخ في ذاكرتهم كأفضل وسيلة للنقل، وتغنت به أغنيات الأمس، فهو بالإضافة لرخص ثمنه فإنه وسيلة ترفيهية وأمينة أكثر من السيارات التي غالبا ما تتعرض إلى حوادث»، لكن الحال تغير مع تقادم أعمار القطارات وبطئها، مما سبب انحسار استخدامه.