الطقس يصبح هاجس الحضور.. وفيلم «ليووين ديفيز» يعيد الستينات والبسمات

مظلات تحت المطر وسرقات صغيرة

هطول الأمطار جعل ضيوف مهرجان كان يستخدمون المظلات أمس (إ.ب.أ)
TT

ينتظر المرء أن تمطر السماء في «كان».

يحدث ذلك في كل سنة يوما أو يومين. ربما في ساعات بعد الظهر والليل. وربما في يومين في مطلع أيام المهرجان ويوم أو يومين في أيام نهايته... لكن هذا العام كان المطر مستديما من اليوم الأول للمهرجان وحتى ليل السبت. للدقة كان هناك يوم واحد سطعت فيه الشمس طوال اليوم، ثم سطعت في نصف اليوم التالي، بعد ذلك عادت غيوم الظلام فسادت وهطل المطر بلا توقف طوال الأيام اللاحقة.

لم يكن المطر وحده ما جعل الناس خلال تجمعها أمام الصالات هذه الأيام تبدو كما لو أنها تقلد المشهد الشهير من فيلم ألفرد هيتشكوك «مراسل أجنبي» (1940) حيث تلتقط الكاميرا من علو مجموعة كبيرة من المظلات تتجمع فوق أحد الأدراج العريضة حيث ستقع، بعد لحظات، جريمة قتل وسنلحظ رقصة أوبرالية قوامها المظلات وهي تتحرك خافية الوجوه. كان هناك أيضا برد ملحوظ مصحوب برياح قوية.

المشهد تحول إلى سريالي تحت وطأة المطر وانتشار البقع السوداء المتحركة تحت الماء. لم يكن ينقصه سوى جريمة مشابهة ليبدو متكامل الغرابة. لكن ما زاده غرابته انتشار ما يبدو مئات من الأفارقة حاملي المظلات المعروضة للبيع. كل شخص يشاهد بلا مظلة يسارع الباعة لعرض مظلة تحميه من ويل الطقس. لكن المظلات بدورها مشكلة إضافية، فعدا عن أنك قد تفقدها في اليوم نفسه أو في اليوم التالي (كما حدث مع هذا الناقد) هي ليست مصنوعة لكي تدوم، فسريعا ما يصيبها العطب فتبرز أسلاكها خارج القماشة أو تفتح مقلوبة مثل صحن طعام كبير، أو - ببساطة - لا تفتح على الإطلاق.

الأغرب من ذلك كله والذي يكمل الصورة التي وجدها البعض، ولو بصمت، مأسوية هو أن يواصل المهرجان طريقته المفضلة قبل العروض الرسمية: إيقاف الناس تحت المطر لنحو ساعة قبل السماح لهم بالدخول.

صحيح أن الكثيرين يصرون على الوقوف قبل الوقت أمام الحاجز الذي يضعه المهرجان على الرصيف على مسافة من الأدراج العريضة المحمية بسقف واقٍ، لكن لا يعني ذلك أن على إدارة المهرجان تجاهلهم والإصرار على فتح باب الدخول أحيانا قبل ثلث ساعة فقط من موعد عرض الفيلم.

في الوقفة الطويلة إفادة، فخلالها تسمع من الناس الملتحمين كل أنواع الحديث. لكنّ أحدا لا يبدو قادرا على الاحتجاج أو راغبا فيه. هؤلاء رضوا بالمعاملة التي هي - في صلبها - غريبة حتى في الأيام الصاحية، فما البال تحت وبال طقس مطري شديد؟

وعليه فإن الملتحمين في وقفة الانتظار هذه كانوا يبدأون حديثهم بالطقس ثم ينتهي كل منهم حيث يشاء. الحديث الأكثر ترددا هو السرقة الجريئة التي تمت قبل ثلاثة أيام والتي أعلن عن أن مرتكبيها سرقوا خزنة تحتوي على قرابة مليون دولار من المال والجواهر. بالأمس ارتفع الرقم إلى مليون و400 ألف دولار. معقول؟ هناك شيء مريب في الموضوع، وهو أن صاحب هذه الثروة (الذي لم يذكر اسمه بعد) جلب معه كل هذا القدر من الثروة إلى فندق 4 نجوم ووضعها في الخزنة فإذا بالخزنة تقلع من مكانها عندما دخل اللصوص من باب يفصل بين غرفة هذا الثري وغرفة ملاصقة شاغرة.

وهذا كله تم تحت المطر، كذلك الكثير من السرقات الصغيرة التي تقع كل عام كون المطر يشكل غطاء واقيا. هناك ناس أقل، وشواغل أخرى، والرؤوس عادة ما تكمن تحت المظلات لا خارجها.

من ناحية أخرى، المطر عرقل «كان» في جوانب مختلفة. مثلا - وإلى جانب أنه يؤثر في المزاج العام - دفع شركات ومؤسسات سينمائية إلى إلغاء حفلاتها الليلية الساهرة. وتلك التي أصرت على القيام بها سجلت حضورا أقل مما هي العادة. هذه الحفلات المقامة سبقها قيام العاملين بالتأكد من أن الأعمدة المنصوبة على الشاطئ لكي تحمل الخيام الضخمة التي سيجتمع تحتها المدعوون ستكون قوية بما فيه الكفاية وأنها لن تنهار كما حدث مع حفلة أمها المخرج الألماني فيم فندرز والممثل الأميركي جيمس فرانكو من باب ترويج فيلمهما المشترك «كل شيء سيكون على ما يرام». فجأة ثقل الماء المتجمع فوق أحد أركان الخيمة وأخذ يتسلل على الحاضرين.

* كلها فرنسية

* لكن لم تلقَ كل الحفلات المصير ذاته. هناك حفلات ترويجية أخرى، معظمها في أوقات النهار، وجد فيها القائمون عليها أن عدد الحضور زاد عن المتوقع، كما حدث مع حفلة «سينما كوبيك» الكندية التي تم ترتيبها على أساس أن عدد الحضور لن يزيد على مائة فإذا بالعدد يبلغ 300 حسب متحدث باسمها. في هذه الحالة، وفي أخرى مشابهة، كان اللجوء إلى الخيام والمكاتب الكبيرة الحل الوحيد لتفادي المطر... هذا وحقيقة أن هذه الحفلات تطعم ضيوفها ما يوفر بالنسبة للبعض مصروفا بات باهظا بسبب الارتفاع المستمر لمستوى المعيشة في هذه المدينة.

وفي الحيز ذاته، لم يعد ممكنا، تحت عبء هذا الطقس، إبرام العقود على مسافات بعيدة من مكاتب الموزعين أو المؤسسات الإنتاجية. ففي السابق كان البائع يدعو المشترين المحتملين إلى جلسة في يخت عائم أو في مطعم معروف بأسعاره الباهظة. هذا العام ها هو المكتب موجود في الطابق الأرضي أو الأول من سوق المهرجان وعلى الزبون المحتمل أن يقابل البائع في مكتبه، فالمكان الأنسب هو المكان الجاف وليس المبلل بالماء.

وعلى ذكر السوق، هناك حركة تجارية ملحوظة هذا العام. السينما أصبحت مثل صنع السيارة حيث يتم تركيب كل جزء منها على حدة. هذه الأيام تتداخل الجهات التمويلية فيبدو الفيلم مثل مخلوق دكتور فرانكنستاين حسب رواية ماري شيلي الشهيرة: الذراع اليمنى من بدن، واليسرى من بدن آخر، والرأس لجثة ثالثة، والقلب مستخرج من رابعة. في حياتها لم تكن السينما على هذا النحو من تعدد النشأة كما الحال اليوم، ما يدلف بنا إلى المسابقة أصلا.

علاوة على ما ذكرناه هنا قبل أيام قليلة من أن كل الأفلام المعروضة في المسابقة تم شراؤها من قبل موزعين فرنسيين أو تم إنتاجها - جزئيا أو كليا - من قبل شركات فرنسية بما فيه تلك الأميركية المعروضة هنا، فإن الإمعان في هذا الوضع يحمل شقين، أحدهما يؤكد أن سينما اليوم أصبحت، في أكثر من جانب، تحمل شتاتا من التمويل، وثانيهما أنه بالنتيجة فإن كل الأفلام المعروضة في المسابقة ومعظم ما هو وارد في قسم «نظرة ما» (المسابقة الرديفة) يصح القول فيه إنه فرنسي ولو بلهجات مختلفة.

* كتابات ساخرة

* فيلم يوم أمس (الأحد) مثال واضح. إنه «داخل ليووين ديفيز»، عمل جيد وجديد من الأخوين إيثان وجوول كوون يتحدث عن مغنٍّ معدوم في مطلع الستينات ورحلته البائسة بحثا عن مستقبل له في عالم الأغنية. هذا الفيلم انطلق من شركة أميركية هي «زوس» (وهي الشركة التي يتولاها الشقيقان كوون) التي لكي تجمع تمويلها للفيلم اتصلت أولا بالشركة الفرنسية «ستديو كانال» التي دفعت فاتورته كاملة (ثمانية ملايين دولار) قبل أن تقوم شركة «سي بي إس» الأميركية بشراء حقوق توزيعه داخل الولايات المتحدة برقم غير معلن عنه بعد (من المرجح أن لا يزيد عن ثلاثة ملايين دولار). مثل كل شركة إنتاج مستقلة فإن القيام بتبني فيلم لها لا يعني أنها ستموله بنفسها، بل تكتفي بوضع البذرة وعرضه على الشركات الكبيرة لأجل أن تؤمن ميزانيته. بالتالي، وبما أن الشركة التي أقدمت على توفير المبلغ المطلوب فرنسية، فإن الفيلم فرنسي الهوية ولو كانت البذرة أميركية كالتصوير والتمثيل والهويات الفردية لكل العاملين فيه.

«داخل ليووين ديفيز» من ناحية ثانية يبدو من الآن ترشيحا رئيسا للسعفة الذهبية، تلك التي نالها الأخوان من قبل في دورة عام 1991 عن فيلم «بارتون فينك»، بل نال ذلك الفيلم، في الواقع، جائزة أخرى لجانب السعفة وهي جائزة أفضل إخراج. في عام 1996 نالا جائزة أفضل إخراج عن «فارغو» ثم جائزة أفضل إخراج أيضا عن «الرجل الذي لم يكن هناك» سنة 2001.

هذه المرة لديهما العمل الذي قد لا يكتفي بجائزة إخراج كونه فعلا ممتازا لقدراتهما الفنية والخطابية. من ناحية عمل متكامل العناصر، ومن أخرى كتابة أخرى ساخرة حول مصائر أناس مهمشين كحال الكثير من شخصيات أفلامهم. ليووين ديفيز (يقوم به أوسكار إسحاق) من جيل مغلف اليوم بالنسيان إلا من بضعة أفلام تفتح صفحات الستينات عن قصد بغية تسليط الضوء على أميركا ذلك الحين. في العام الماضي كان هناك «على الطريق» لوولتر سايلس (وكان تمويلا فرنسيا أيضا) عن رواية جاك كيروياك حول رحلته في مطلع الستينات، وجيل ذلك العقد الفريد والتوق لاكتشاف الذات وأميركا في آن معا.

فيلم الأخوين كوون أفضل من فيلم وولتر سايلس في المعالجة والأجواء وحصر المهمة في نطاق أضيق عوض توسيع دائرة العرض لتشمل محاولة نقل صورة عريضة. بطل الفيلم جائع ومفلس ولو أنه موهوب ولديه القدرة على فرض الإنصات لصوته وكلماته وعزفه. لكن لا شيء يحدث معه مما يمكن أن يقربه صوب تحقيق حلمه بالتحول إلى مغنٍّ له أسطوانات مبيعة. مقطوع من شجرة لم تثمر سواه ونضج لكنّ أحدا لا يقترب منه لتلقفه والعناية به. وفي النهاية حين يعلن أنه سيعتزل المحاولة لكونه يعلم أنه متعب ولا مستقبل له يعكس براءة الحالمين وإحباطاتهم في الوقت نفسه.

هذا نوع آخر من «الرجل الذي لم يكن هناك». يمكن تسميته بـ«المغني الذي لم يكن هناك» كون بطله بقي في الظل مهمشا ومجهولا، لكن الجيد في أفلام الأخوين كوون والممارس هنا على نحو أفضل من أفلام أخرى لهما، هو أنها تتعامل دائما مع غرائبيات هذه الشخصيات غير المحسوبة. تستمد من مواقف شبه مجنونة الطقس الكوميدي الأسود المناسب لها.