متحف الحرير في لبنان.. يجسد الزمن الذهبي بعد اندثار صناعته

يقدم عرضا حيا لتربية دودة القز عبر مراحل تطورها

TT

يأخذك سحر المكان منذ اللحظة الأولى لدخولك متحف الحرير في بلدة بسوس قضاء عالية (جبل لبنان)، فيعيدك ببنائه التقليدي وحجارته الكبيرة إلى القرن التاسع عشر لتكتشف مشروعا استثنائيا يهدف إلى إحياء جزء حميم من ذاكرة الماضي.

يقع المتحف على تلة مرتفعة في البلدة، حيث يتراءى في البعد مشهد البحر الهادئ، بينما تزنر المنزل أشجار التوت (الشجرة الذهبية، الغذاء الوحيد لدودة القز) والحديقة التراثية الفريدة التي أقيمت لتشجيع السياحة الزراعية، وتضم 12 نوعا من الأعشاب اللبنانية ومنها الزعتر والخزام والغار.

يقول صاحب المتحف جورج عسيلي في حديث لـ«الشرق الأوسط» حيث التقيناه في إحدى قاعات المتحف: «تكمن أهمية المتحف في أنه أعاد (كرخانة) الحرير بكل مرافقها وبـ(طبعة عتيقة) تعيدنا إلى مطلع القرن العشرين. وقصدت مع زوجتي ألكسندرا من هذا المشروع الذي أسسناه عام 2000 حماية الماضي وجعله متحفا إيكولوجيا وثقافيا، يأتي إليه الناس ليستشرفوا تاريخ أجدادهم بعد أن تحول إلى مرجعية مهمة في التاريخ اللبناني البيئي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي».

ويتابع أن المتحف تحول إلى معلم سياحي يقصده كل عام طلاب المدارس والجامعات والسياح من الخليج العربي، ولا سيما السعودية والكويت والإمارات ومن الدول الأجنبية والأوروبية. وقد شهد المتحف هذا الموسم معارض لمنتجات حريرية صينية وفيها قطع حريرية تسحر الألباب من العباءات الإمبراطورية إلى الثياب الزاهية المزركشة بخيوط الحرير والذهب وانتهاء بالأحذية الحريرية المربوطة التي كانت تستخدم لربط أرجل الفتيات كي تبقى رفيعة ودقيقة، فضلا عن منتجات حريرية فيتنامية وكمبودية ويابانية، إضافة إلى معارض لمنتجات القرية اللبنانية.

ويحتفي المتحف في هذه الفترة من كل عام بدودة الحرير التي شكلت في فترة من الفترات عماد الاقتصاد اللبناني وتبوأت المرتبة الأولى في قائمة الصادرات اللبنانية بين 1870 و1910، لذا فقد كرمتها الدولة اللبنانية وأنشأت مطلع القرن الماضي مؤسسة «مكتب الحرير» الذي أغلق عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان. ولم تبذل الحكومات اللبنانية المتعاقبة جهودا لإعادة افتتاحه على الرغم من المطالبات المتعددة من قبل المزارعين والمعنيين.

وردا على سؤال توضح دونا رعد إحدى المشرفات في المتحف أنه يتميز بالعرض الحي لتربية دودة القز عبر مراحل تطورها فضلا عن عرض أنسجة مصبوغة وفق الطريقة التقليدية بالإضافة إلى النباتات التي تستعمل للصباغة. ولا يمكن لناظري الزائر إلا أن يقعا على أطباق سطحها مغطى بورق التوت المفروم الناعم تسرح فوقها جماعات من دود القز تقضم الأوراق محدثة خشيشا ناعما. وقد قسمت بحسب عمرها حيث تحفظ في مكان دافئ (بين 22-25 درجة مئوية) وتطعم ثماني مرات حتى تتحول من بذرة إلى يرقة إلى دودة فشرنقة وزيز وأخيرا فراشة تضع البيض لتموت بعد عشرة أيام.

ويخضع دود القز وفق عسيلي لأربع عمليات سلاخ وفي العمر الخامس يصوم صيامه الأخير وينصرف لحياكة شرانق الحرير لتغلي الشرانق في أوعية نحاسية بعد ذلك لمدة خمس دقائق، ترفع إلى أحواض يكون ماؤها فاترا. بعد ذلك تتلمس العاملات الشرانق بأنامل مرهفة بحيث يسحبن من كل شرنقة طرف خيطها فتكر سبحة الخيوط الحريرية الخام وتضم إلى بعضها وتربط بدواليب خشبية تدور باستمرار، وتلف الخيوط شللا من حرير يصار إلى صبغه بألوان عدة قبل نسجه على الأنوال الخشبية القديمة التي جلبت من الخارج في أوائل القرن الماضي. ومن المعارض التي أقيمت في المتحف «معرض خيوط الذهب والحرير»، و«معرض الحرير الحي»، و«معرض الحرير الإيطالي والفرنسي»، و«معرض السجاد الحريري الفارسي»، «ومعرض الحرير العثماني».

أما في لبنان، فيعود تاريخ الحرير إلى عهد الصباغ الأرجواني، أي إلى أكثر من 2000 سنة، وذلك بعد أن فتحت الإمبراطورية الفارسية طرق الحرير الصيني إلى فينيقيا، فأصبح الفينيقيون، وخصوصا أبناء صيدا وصور، يستخرجون من صفدة الموركس اللون الأرجواني لإنتاج الحرير الإمبراطوري.

وتطورت هذه الزراعة في أيام الأمير فخر الدين الثاني المعني، فأسس صناعة ترتكز على إنتاج الحرير، مما أمن استقلالية اقتصادية لإمارة جبل لبنان.

واشتهر الحرير البلدي اللبناني بلونه الأصفر، وفي القرن التاسع عشر، اشتهر لبنان بصناعة الحرير بفضل المهارات التي تطورت بمساعدة نساجي مدينة ليون الفرنسية.

ويشير عسيلي إلى أن حركة نقل الشرانق والحرير بين مرفأ بيروت ومرفأ مرسيليا كانت ناشطة جدا، لافتا إلى أن البعض يذهب إلى اعتبار أن رواج اللغة الفرنسية في لبنان يعود لصناعة الحرير، إذ إن البعثات الكاثوليكية قامت بفتح مدارس خاصة في لبنان لتعليم صناعة الحرير وحياكته، وأسهم بذلك أيضا وجود عدد من الغزالين الفرنسيين في لبنان.

بدورها، توضح رعد أنه من دودة القز إلى معارض الأزياء، مسيرة طويلة من العمل الدؤوب الممزوج بالفن والدقة والنعومة.

ويحتوي المتحف على عدد كبير من الرسوم والصور القديمة النادرة الموزعة في قاعات عدة وكلها تنهض شاهدا على حقبات ذهبية مرت بها تربية دود الحرير وصناعته في لبنان وسوريا والعالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

ولا تنتهي جولتنا قبل الوقوف باستغراب على الأرقام التالية: نحتاج إلى 110 شرانق لصنع ربطة عنق من الحرير، ونحتاج إلى تربية 3000 دودة قز تأكل 65 كلغ من ورق التوت لصنع كيمونو من الحرير السميك.

واليوم وبعد أن كانت صناعة الحرير منتشرة جدا في لبنان ويشهد على ذلك كتاب «صناعة الحرير في سوريا ولبنان» الصادر في سنة 1912 لغاستون ديكوسو، قنصل فرنسا في بيروت آنذاك، الذي أحصى 183 كرخانة، لم يبق وفق عسيلي سوى متحف الحرير، بالإضافة إلى كرخانة في بيت الدين لكنها فارغة، في وقت يوجد فيه 5000 شجرة توت في لبنان بعد أن وصل عددها إلى 13 مليون شجرة عام 1900.