«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (8): الأميركيون أكثر استحقاقا لها والتونسي قشيش يلهث وراء حب ممنوع

ساعات «كان» الحاسمة بدأت

لقطة من فيلم جيمس غراي «المهاجرة»
TT

يقترب المهرجان من نهايته مع اقتراب يوم الأحد عندما تعلن النتائج الرسمية ويعود كل واحد من الألوف التي حضرت هذه الدورة من حيث جاء. والقول إن الدورة كانت رائعة غير مصيب تماما، لكنها لم تكن ضعيفة أو هزيلة في عروضها.. كل ما في الأمر أن زمن الإبداعات الكبيرة ولى، والجدد من المخرجين يبدون كما لو كانوا تماثيل شمع بالمقارنة، أو نسخا ممزقة.

معظم النقاد الأميركيين والبريطانيين يحبذون حتى الآن «داخل لووين ديفيز» للأخوين إيتان وجوول كوون، وإذا لم يكن ففيلم «نبراسكا» لألكسندر باين. في حين أن معظم النقاد الفرنسيين اختاروا «الماضي» لأصغر فرهادي، لكن هل يستطيع ستيفن سبيلبرغ، الذي لديه مواقفه السياسية المعلنة حيال إسرائيل، أن يسمح لنفسه بتوجيه هدية لمخرج إيراني حتى وإن كان فيلمه لا يتعاطى والشأن الإيراني ولا علاقة له بالسياسة من قريب أو بعيد، وفوق ذلك هو فيلم فرنسي بكل «سنتيم» صرف عليه؟

هذا ليس للإيحاء بأن سبيلبرغ مكبل اليدين في اختياراته وأنه قد يحبذ مواقعه السياسية على تلك السينمائية. الغالب أنه من الإدراك بحيث سيعاين كل فيلم على نحو منفصل ويختار منها ما يعتقد أنه الأفضل. لكن الخاطر السابق وارد وكيف لا يرد والعالم بات أشبه بكرة تتداولها مواقف واتجاهات السياسة أكثر من ذي قبل؟

فيلم الأخوين كوون ليس الفيلم الأميركي الوحيد الذي يحق له إثارة الإعجاب، بل هناك أيضا «نبراسكا» للمخرج الجيد ألكسندر باين، وهناك من رتبته المخرج جيم يارموش الذي يعود بعد غياب طويل ليقدم «فقط العشاق تركوا أحياء» (يختم عروض المسابقة) وشاهدنا للتو «المهاجرة» أفضل ما أنجزه لليوم المخرج الأميركي جيمس غراي.

أي من هذه الأفلام يستحق السعفة الذهبية ويمكن الدفاع عن نيله إياها حيال أي فيلم آخر.

* «بورنو» حسب عبد اللطيف قشيش

* بالعودة إلى ما يبدو موضوع المنافسة الأساسي بين «الماضي» لأصغر فرهادي و«داخل لووين ديفيز» للأخوين كوون، فإن كلاهما جيد ويستحق شيئا. ربما جائزة أفضل إخراج وجائزة أفضل ممثلة في «الماضي» وأفضل ممثل في «داخل ليووين ديفيز».. لكن هل يستحق أحدهما وحده السعفة الذهبية؟

أما «نبراسكا» لألكسندر باين فتوقعاته صعبة: هل سيكتفي بنيل جائزة السيناريو كما الحال في معظم المرات التي نافس فيها المخرج باين على جائزة ما (هذه هي المرة الأولى التي ينفذ بها فيلما لم يكتبه بنفسه) أم أن التقدير الذي يستحقه كمخرج يميل إلى الصورة البسيطة والمضمون العميق آت قريبا؟

في الأيام القليلة السابقة شاهدنا فيلمين فرنسيين آخرين أحدهما لعبد اللطيف قشيش وهو «الأزرق اللون الأكثر دفئا» والثاني «مايكل كولاس» للمخرج أرنو دي بالييري. وهناك من خرج مبهورا بهما.

عبد اللطيف قشيش تونسي المولد وفرنسي الهوية وفيلمه مأخوذ عن رواية يسردها قشيش بالطول الذي تعود عليه إذ تبلغ مدة العرض نحو ثلاث ساعات. اضطر هذا الناقد لمشاهدة الفيلم مرتين. الأولى خرج منها لانشغاله وذلك بعد ساعة ونصف والثانية تحمل فيها مشاهدة الساعة والنصف الأولى مرة ثانية لباقي الفيلم. لا شيء في هذه التجربة المريرة غير قنطارا من الرأي الذي تكون في المرة الأولى، وهي أن المخرج مأخوذ بأسلوبه لدرجة أنه لا يعي مساوئ الإقدام عليه.

لدينا حكاية فتاة في مقتبل العمر نتعرف عليها تسرع الخطى لتلحق بالحافلة العمومية لنقلها إلى المدرسة التي تدرس فيها. تتبادل وطالب في المدرسة نظرات وعبارات ثم صفحات من الحوار قبل أن يعمدا إلى ممارسة الحب. إلى أن يقع ذلك، تكون الفتاة واسمها «أديل» (تقول إن اسمها مشتق من كلمة «عادل» العربية!) قد حلمت بعلاقة مثلية مع امرأة ذات شعر أزرق (ليا سيدو) شاهدتها مرة واحدة بصحبة أخرى. تنفصل أديل عن الشاب وتدخل حانه للمثليات وترى المرأة التي حلمت بها في الحانة. والمسألة ليست سوى مسألة وقت (طويل ومهدور) قبل أن يمارسا الحب.

هنا يتحول الفيلم إلى مصاف أي فيلم «بورنو» مع اختلاف أسلوب التصوير. فالمخرج قشيش يؤمن بالكاميرا القريبة من الموضوع. «الكلوز أب» يسحره. يجعله يصرف معظم الفيلم عليه واللقطات ليست ثابتة طوال الفيلم بل تشبه مساحات السيارات في أيام المطر.. تتحرك يمينا ويسارا ولو شئت التوقف والتساؤل عن قيمة أن تكون الكاميرا قريبة وأن تتحرك في الوقت نفسه بين شخصين (كالمشهد الذي يقع بين كل اثنين يتحاوران في الفيلم) فلن يأتي الجواب مرضيا لأنه فعليا - غير موجود.

لكن المشهد العاطفي الكبير بين بطلتيه (وهو ليس المشهد الوحيد من نوعه في الفيلم) عدا عن أنه سينمائيا مسرف هو أيضا متكلف. ما الذي يمكن لمشهد من هذا النوع يمر في أكثر من خمس دقائق قوله مما لا يستطيع الإيحاء قوله؟ لماذا على المخرج الذي يرتدي قبعة الفنان والمفكر الانكباب على تفاصيل مشهد إباحي تحت ستار تلك القبعة؟

القول إن مشاهد الفيلم الطويلة غير مبررة وأن الحكاية بأسرها في يد مخرج آخر قد تسرد في ساعة ونصف أو ساعتين لم يعد جديدا. كثيرة هي الأفلام التي تتمنى لو أنها لم تتجاوز الساعتين ومع هذا الفيلم تجد أن هذه الرغبة في مكانها حتما. مما يسيء إلى السينما في هذا الفيلم هو الثرثرة الكلامية. هذه أوبرا من الحوارات التي مهما قيل إنها تعكس معايشة واقعية، تبقى غير سينمائية. السينما ليست موجودة لتعكس الواقع بل لتتفنن فيه.

وإذ تلهث الكاميرا وراء بطلته (أديل إكزاروكوبولوس) يبدو جليا بعد حين أن الوله قد يكون شخصيا. لكن - وفي كل الأحوال - يؤكد الفيلم من حيث لا يرغب أن أسلوب المخرج البصري عاجز عن أن يبلور الفيلم الذي كان ينشده.

* النازي الهارب

* الفيلم الفرنسي الآخر هو «مايكل كولاس» الذي يتحدث عن مالك أراض يعيش تحت سطوة البارون (في قرن مضى) والذي يؤلف من المزارعين جيشا صغيرا ينقض به على جنود البارون بعدما أساء رجال البارون معاملة حصانين له والاعتداء على زوجته لاحقا. يتحدث الفيلم عن حرب لعامين لكننا نرى هجوما واحدا وقتالا واحدا بعد ذلك ليعود الفيلم إلى سباته. تريد أن تمد يدك وتهز الفيلم من كتفه وتقول «تحرك.. قل شيئا.. تقدم» فالعمل جامد مثل كتابته وخشبي مثل تمثيله (بطولة ماس ميكلسن).

قبل ذلك شاهدنا عملين آخرين أحدهما الأرجنتيني «واكولدا» الذي استوحته المخرجة لوسيا بونزو من رواية لها: هناك (في الستينات) ألماني يعيش في منطقة باتاغونيا في موقع يجمع بين البحيرة والغابة وبضعة منازل متباعدة تتعرف عليه عائلة أرجنتينية وتستقبله في منزلها الكبير بعدما استأجر واحدا من غرفها. الحكاية ستمضي بوتيرة تشويقية جيدة لتكشف اللثام عن أن هذا الألماني هو نازي سابق وسيحشد الفيلم لنهاية يتساءل فيها المشاهد عما إذا كانت جهات أمنية إسرائيلية تتعقب النازيين السابقين لتقديمهم للمحاكمة سوف تصل إلى هذا الألماني وتعتقله، أو أنه سيفلت من العقاب. هذا التساؤل يورده الفيلم على نحو يجعل من المتاح طرح سؤال آخر: هل يستحق هذا الألماني أن يعتقل بعدما أنقذ حياة الزوجة وطفليها وقبل ذلك ابنتها بوصفه طبيبا ماهرا؟

لا تترك المخرجة الجواب معلقا إذ نرى طائرة الهروب وقد أصبحت في الجو بعيدة عن الخطر وعلى متنها الطبيب ومساعده وعلى صدر الزوجة ارتياح كبير لأنها لم ترد لهذا الرجل أن يسقط في براثن الاعتقال بصرف النظر عن دوافعها.