«وكالة البلح».. أقدم سوق شعبية في مصر تصبح مقصد الغني والفقير

قوانين استيراد «البالة» وضعها السادات لتشجيع تجار بورسعيد والسويس على العودة إلى ديارهم

«وكالة البلح».. أقدم سوق شعبية في مصر تشتهر بتجارة الملابس المستعملة والمفروشات (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

«لا تبتئس.. كل شيء في وكالة البلح، من الإبرة إلى الصاروخ».. هكذا يمازح المصريون الفقراء بعضهم بعضا، حين يضيق الحال وتنسد نوافذ الأمل. ومع تطور الأمور، أصبحت «وكالة البلح»، أقدم سوق شعبية تقع على ضفاف نيل القاهرة، استراحة ومقصدا تجاريا يتسابق إليه ميسورو الحال، قبل الفقراء الذين أصبحوا يشكون من ارتفاع الأسعار بالوكالة نتيجة مزاحمة الأغنياء لهم.

ويرجع تاريخ إنشاء «وكالة البلح» إلى بدايات القرن التاسع، وقد سميت بهذا الاسم لأنها كانت سوقا مخصصة لتجارة البلح، الذي كان يأتي إليها من خلال المراكب الصغيرة التي كانت تصل عبر نهر النيل من الصعيد بجنوب مصر، خاصة من أسوان، إلا أن تجارة البلح بدأت في التراجع تدريجيا واقتصر بيعه في السنوات الأخيرة على تجار الجملة في منطقة «الساحل» التي تبعد قليلا عن وكالة البلح.

ولفتت حيوية الوكالة التي يتوافد عليها يوميا صنوف عدة من البشر، يتركون في ظلالها حكاياتهم وصراعاتهم الصغيرة مع الحياة، أنظار صناع السينما في مصر، ففي منتصف الثمانينات قامت الفنانة نادية الجندي ببطولة فيلم شهير حمل عنوان «وكالة البلح» تدور أحداثه حول سيطرة التجار على بعض السلع والتحكم في السوق. وجذب الفيلم انتباه المشاهدين بحبكة درامية اختلطت فيها مشاعر الحب بصراع التجار في الوكالة.

وفى أواخر التسعينات قدم الفنان نور الشريف المسلسل التلفزيوني الشهير «لن أعيش في جلباب أبي» ليحكي قصة شاب فقير قدم من الصعيد ليعمل بوكالة البلح، يجتهد ويكافح ليصل بعد تعب وجهد إلى مصاف كبار التجار والأثرياء. ومن ثم أصبحت الوكالة منجم خبرة ومكاسب مادية لكل من يقصدها سواء كان البائع أو المشترى الذي يفضل أن يشتري منها للحصول على أرخص الأسعار وأعلى الخامات.

الحاج عمران عمار الصعيدي يحمل على كاهله 80 عاما، ويعتبر حاليا أقدم تجار الملابس المستعملة أو «البالة» بوكالة البلح، ويقول: «قدمت من الصعيد للعمل في الوكالة منذ أكثر من ستين عاما، ومن وقتها وأنا أرى جميع شرائح المجتمع تزور المكان، فبضاعة الوكالة تتمتع بجاذبية خاصة للزبائن الباحثين عن الجديد بأرخص الأسعار، سواء كانوا من الفقراء أو الطبقة المتوسطة، لكن الطبقة الغنية تأتي إلى الوكالة لشراء الرفاهيات والبحث عن الماركات العالمية في بضاعة (البالة) حيث تباع القطعة أقل كثيرا من المحلات بعشرات المرات». يستطرد عمران قائلا: «من ينظر إلى الوكالة من حيث الموقع الجغرافي يعرف لماذا يتنوع زبائنها، فهي تبعد خطوات شرقا من حي بولاق أبو العلا الشعبي، وفى مواجهتها على الضفة الأخرى لنهر النيل حي الزمالك الراقي الشهير بنوعية سكانه الأثرياء».

وعن تطور حركة التجارة بالوكالة، يحكي عمران أن التجارة في الوكالة بعد أن كانت مقتصرة على بيع كل أنواع البلح وبجانبه أقمشة الكتان الآتية من صعيد مصر، تطور الوضع، خاصة بعد رحيل الجيش البريطاني عن مصر، وقام التجار الذين اشتروا مخلفات الجيش من ملابس، وبطاطين، وحقائب، وأدوات منزلية، ببيعها في الوكالة، وفي هذه الفترة أيضا انتشرت تجارة الملابس المستعملة (البالة) بعد أن كانت مقتصرة على منطقة بورسعيد».

ويذكر عمران أن من وضع قوانين استيراد «البالة» هو الرئيس الراحل أنور السادات حتى يشجع تجار بورسعيد والسويس المهاجرين على العودة إلى ديارهم فمنحهم «البطاقات الاستيرادية» التي تمنحهم الشرعية في استيراد البالة. ومنذ ذلك الوقت لا يوجد في مصر بطاقات استيرادية إلا التي حررت في ذلك الوقت. ومن هنا كانت بداية العصر الذهبي لوكالة البلح بدخول بضائع البالة، حيث أصبحت الأسواق الأوروبية تضع مصر في مقدمة البلدان التي تستورد «البالة»، وبدأ عدد من كبار تجار بورسعيد بطرحها في وكالة البلح، وذلك تسهيلا على زبائن القاهرة الذين كانوا يقصدون بورسعيد لشراء ملابس البالة من الحي التجاري بالمدينة.

وعن رحلة التجار لشراء «البالة» يوضح الحاج عمران عامر أن «التاجر القاهري يشتري حقائب (البالة) بالكيلو من التاجر (البورسعيدي) ولا يحق له أن يفرز البضاعة، فقط من حقه معرفة ألوانها ونوعية الأقمشة بقدر ما يظهر منها وهي مغلقة، حيث يكون الفرز في مخازن مخصوصة من قبل المستوردين الكبار. وبناء عليه، يتم تحديد أسعارها ومستوياتها حسب نوعها وجودتها ودرجة استهلاكها. وتعتبر أفضل أنواع البالة (البلجيكي)، فهم شعب غني والملابس الآتية من هذا البلد تكون جديدة لكثرة مواسم التخفيضات لديهم. وعند تسلم (البالة) يقوم المستورد بغسلها في مغاسل مخصوصة وتطهيرها وأيضا كيها حتى تبدو جديدة ونضمن تعقيمها».

وحول أساليب الترويج التي أصبحت سمة لافتة في الوكالة، يقول الحاج عمران إن «تجار الوكالة أصبحت لديهم أساليب متطورة للترويج لبضاعتهم تشبه التي تقوم بها كبرى محلات الملابس، حيث نحتفظ بأرقام موبايلات الزبائن، ونهاتفهم فور قدوم البضائع الجديدة، وأغلبهم من الطبقات الراقية الذين يحرصون على شراء الملابس ذات الماركات المشهورة، بالإضافة إلى العديد من الفنانات دون ذكر أسمائهم اللاتي يطلبن مني موديلات ملابس بعينها عند دخولهم إلى عمل جديد، وترسل لي مديرة أعملها أو «اللبيسة» (وهذه حال أغلب الطبقات الراقية) ترسل من يأخذ مجموعة كبيرة من الملابس منعا للحرج من أنهم يرتدون من الوكالة». ورغم هذا، فإن الجميع ينكرون علاقتهم بملابس البالة. وينتشر تجارة البالة في بعض دول العالم العربي باختلاف الأسواق التي تعرض فيها، فهي منتشرة في العراق وسوريا، وفلسطين».

وعن كيفية دخول قطع غيار السيارات إلى الوكالة، يقول الحاج عمران إنه بعد انتهاء الحرب شهدت «وكالة البلح» سلعة جديدة هي الخردة التي اشتراها التجار من مخلفات الجيش الإنجليزي وقاموا ببيعها لتجار المعادن، و«منذ ذلك الوقت وهؤلاء التجار يقومون بشراء المخلفات المعدنية من المصانع وفرزها إلى حديد ونحاس وألمنيوم وغيرها من المعادن التي تدخل في كثير من الصناعات، بالإضافة إلى تجارة قطع غيار السيارات القديمة، ومن هنا أصبحت الوكالة سوقا تضم شتى أنواع البضائع الخفيفة، من ملابس ومفروشات وأقمشة بالإضافة إلى البضائع الثقيلة من قطع غيار سيارات ومحركات لكل الأجهزة، ومؤخرا قطع أثاث جديدة ومستعملة بأسعار زهيدة».

يضيف عمران أنه قبل ثورة «25 يناير (كانون الثاني)» كان البائع الذي يأتي للعمل بالوكالة حديثا قبل أن ينصب فرشته يقوم بالاستئذان من التاجر الكبير في مربعه، «فالوكالة مقسمة إلى مربعات، كل تاجر مسؤول عنه وعن الباعة الجائلين فيه، بالإضافة إلى أصحاب (الفَرْشَات)، ولكن بعد الثورة كل من ترك عمله في مكان أخد من الوكالة مكانا للاتجار، فهي سوق مفتوحة لكل السلع، فأصبحت اليوم مزدحمة بالباعة الذين أصبحوا أكثر من الزبائن، وهو ما تسبب في الفوضى، فالباعة احتلوا جميع الأرصفة التي تحيط بالوكالة، ونهر النيل في غياب الرقابة».

أحد البائعين اسمه صلاح السوهاجي، شاب لم يتجاوز عمرة الثلاثين، يلتقط طرف الحديث قائلا: «تركت الصعيد بعد حصولي على دبلوم التجارة، فأنا من أسرة فقيرة لم يكن في استطاعتها إلحاقي بالتعليم العالي. استهدفت الوكالة حيث يعمل بها أغلب أقاربي (أصل اللي بنى الوكالة الصعايدة)، بالإضافة إلى أن العمل في أي مكان يرتبط بالمواسم، إلا أن البيع والشراء في وكالة البلح ليس له موسم، فالزبون يأتي إلى الوكالة لاقتناص الفرص، فبضاعة الوكالة لا توجد في أي مكان آخر، فلا توجد فتاة مقبلة على الزواج إلا ويجب أن تزور الوكالة لشراء أقمشة المفروشات والستائر وبعض احتياجاتها من الملابس، ومن الصعب أن يأتي زبون ولا يجد ضالته».

يضيف السوهاجي: «مثلما زبائن الوكالة متنوعون طبقيا، أيضا التجار كذلك، فمنهم أصحاب محلات كبرى، ومنهم من لدية كشك صغير أو فرشة على الرصيف، وكل له تخصصه. البعض متخصص في بيع الملابس غير المستعملة، ولكن (فرز ثاني)، أي تحتوي على عيب بسيط في الصناعة، وهي الأغلى في سعرها، وهناك من يبيع (الصيني) الذي يجد إقبالا عليه نظرا لانخفاض سعره وجمال تصميمه. أما بالنسبة لصغار البائعين مثلى، فأنا أقوم بأخذ بضاعة بالأجل من أحد التجار الكبار وأقف بها في ساحة الوكالة الأمامية وهي عبارة عن شماعة كبيرة (ستاند) تحتوى على 100 قطعة، ويحاسبني على ما قمت ببيعة آخر اليوم».

ويحلم السوهاجي بأن يعود إلى بلده ويشترى الكثير من الأراضي.. وعلى حد قوله: «نفسي أصبح من الأكابر، وأنجب أولادا أقوم بتعليمهم في الجامعات، فيكون لديهم وظيفة مضمونة، وهذا ليس حلمي وحدي؛ بل حلم أغلب من يعملون في الوكالة».