حب وانتقام في كردستان ورحلة طويلة من غواتيمالا إلى كاليفورنيا

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (9)

الممثلة غولشفته فرحاني في لقطة من «أرضي ذات الفلفل العذب»
TT

الطريقة التي يكتب بها البعض عن السينما (والبعض الآخر عن شتى شؤون الحياة الأخرى) توحي بأن هناك أزمة بخور في الأسواق. لقد تم استحواذه كله لكي ينفرد هذا البعض به فيسدل أبياتا من المدح على ما يكتب عنه. معلقات طويلة حول حسناته. فائض من الشغف بالشخصيات والأعمال ومن دون أدنى تردد أو حيادية.

أحد هؤلاء كتب أعمدة يومية في مدح نشاطات إحدى العواصم وحين انتهى من ذلك انتقل إلى مدينة أخرى فيها ثم إلى ثالثة، وخلته سوف يحوم فوق كل بلدة وقرية ويجد فيها من الكلمات الرنانة ما يوزّعه على سلسلة مقالات على عدد تلك البلدات والقرى.. وكل ذلك وهو يكتب في الفن والثقافة، فما البال لو كان يكتب في السياحة؟

وهناك الذين يجدون في كل فيلم يعرضه كان مناسبة لسباحة فضائية مرددا أن «كان» أعظم مهرجانات الدنيا وأن الفيلم المعروض فيها هو - بالتالي - أفضل فيلم في العالم. والمخرجون لا يسلمون من شر هذه الكلمات المعسولة فهذا «مخرج عظيم» وذلك «فنان عالمي» والثالث «شاعر سينمائي من الطراز النادر» أما ذلك الكاتب فهو أكبر من كلماته. وهكذا يمضي الوقت وأنت تقرأ قرظا لا ينتهي دخل المقال في نهاية المطاف لب الموضوع أو لم يدخل.

متى نحاسب أنفسنا على ما نكتبه ونسدده للقارئ؟ متى نحمل مسؤولية ما نوفره من رأي ومعلومات؟ ثم متى نتواضع أمام الحقائق؟ ومتى نتعلم الاستماع إلى الآخر والتفكير في أنه قد يكون على حق؟

الإعلاميون الغربيون في «كان» هذه السنة وفي الكثير من السنوات السابقة عابوا على عدد من الاختيارات وأثنوا على بعضها، لكن لم أقرأ، ولم يقرأ صديقان يجيدان الفرنسية، عبارة مثل تلك السابقة تسبق اسم مخرج أو ممثل أو أي مبدع. وأحدهما قال لي: «نحن في الصحافة الفرنسية نعتبر أن من واجب المهرجان تقديم الأفضل ولذلك لا نجد لزاما علينا أن نمدحه. نعترف له حين تدعو الحاجة لكن ليس هناك من فائدة في المدح. هو يعرف ما هو مطلوب منه».

طبعا هناك بعض المسلّمات. مهرجان «كان» بالطبع عيد السينما الكبير لكنه ليس المكان الوحيد الذي تستطيع فيه تلقف أفضل أفلام السينما. الأكثر من ذلك أن مهرجانات السينما الدولية الأولى الثلاث (كان وبرلين وفينيسيا) تفوّت فرصة عرض أفلام رائعة نجدها موزعة في مهرجانات هي أقل شهرة. فما باتت تهدف إليه هو الاحتفال بالفيلم وليس الفيلم ذاته وذلك بأن يستفيد من وجود مخرج معروف وممثلين نجوم وهو، في حالات كثيرة، يملأ برنامجه بما تيسر له من هذه الأفلام على حساب أعمال سينمائية جديرة لا ترى النور الذي تستحق.

وما ذكرناه هنا قبل أيام من وجود تلك الصفقات بين المهرجان وشركات التوزيع متردد ومعروف بين قسم لا يستهان به ويترك بصمات سلبية على الاختيارات.. لكن كل ذلك لا يعني شيئا لدى حارقي البخور.

* بين ما تم عرضه من أفلام «كان» عملان جيدان يتناول كل منهما وضعا على مسافة جغرافية متناهية، لكنهما يلتقيان في البحث في حاجات الإنسان الأساسية: القانون والأمن والهوية. في My Sweet Pepper Land (وأقرب ترجمة لها هي «أرضي ذات الفلفل العذب» ولو أن في الفيلم مشهدا لحانة باسم «بيبر لاند») ترفض بطلة الفيلم غوفند (غولشفته فرحاني) معاملة شقيقها لها وتثور في وجهه وأصحابه قائلة: «تعيبون على صدّام حسين لكنكم تفعلون مثله». عبارة خطيرة والأخطر منها أنها ترد في فيلم كردي المنشأ والهوية والمخرج فهل الرغبة هنا الترحم على نظام صدّام حسين؟ يقول المخرج هينر سليم مؤكدا «لا. هذا ليس المقصود على الإطلاق. أنا أذكى من أن أجري هذه المقارنة».

المقصود هو أن النية للتسلط لم تعد تعرف حدودا ومكانة وشعبا. وأن «الأفراد، ناهيك عن الأنظمة أو بعضها في كل أنحاء العالم، قد تمارس أسلوب التسلط والهيمنة حكما بعد حكم. إنه في البيئة المولدة وفي منهج التفكير والعمل».

الفتاة الشابة في «أرضي ذات الفلفل العذب» كانت تركت والدها في المدينة وأمت تلك البلدة الموازية للحدود مع تركيا حيث تريد أن تعلم الأولاد في المدرسة الوحيدة هناك. هذا هو الوقت ذاته الذي قبل فيه باران (قرقماز أرسلان) استلام وظيفته كآمر قوات الأمن في البلدة المؤلفة منه ومن مساعده فقط. على الساحة ذاتها، هناك مناضلات يحملن سلاح المقاومة في سبيل الحكم الذاتي، ومهربو الحدود التابعون لسيد القرية والعاملون في خدمته. وسريعا ما سينتشر في البلدة أن باران وغوفند على علاقة عاطفية، وهذا ما يحدث ولو لاحقا في هذه الدراما المحلاة بالمواقف الكوميدية التي من لطفها لا تحوّل العمل إلى كوميديا أو مناسبة ضاحكة من أي نوع بل تغرف من جدية الموضوع الباحث في تأسيس كردستان تحت حماية القانون والهوية الثقافية.

«أرضي ذات الفلفل العذب» هو فيلم هينر سليم التاسع منذ عام 1998 ومثل أعماله السابقة حمل بين دفتي هذا الفيلم تلك اللكنة الكوميدية ضمن اللبنة الجادّة كموضوع. ومثل غالبية أفلامه (أي باستثناء «فودكا ليمون» أو «تحت أسطح باريس») يتعامل مع الموضوع الكردي وشخصياته. كثير من هذا التعامل تم فوق أراضي الإقليم المستقل ذاتيا، لكن في «سأقتلك إذا مت» تحدّث عن وضع قوامه أكراد وصلوا للعيش في باريس.

ما يختلف به هذا الفيلم هو تصوير رائع للمكان يجعلك تتحسس طبيعته وتعايش حياته وثقافته. إلى جانب ذلك هناك حقيقة أن الفيلم يذكر بنوع سينمائي ولو أن المخرج يتردد في الموافقة على ذلك. إنه قريب التناول من أفلام «الوسترن» الأميركية (ولا أقول ذلك هنا تقليلا من أهميته): الأرض الجديدة، البلدة القديمة، رجل القانون ومن يحب وأعداؤه والزعيم الذي يقتضون بأوامره. كذلك القبعة والحصان والمسدس وبعض الموسيقى.

ربما كان ذلك في عقل المخرج الباطن. المخرج الكردي - التركي الراحل يلماز غونيه تناول قضايا بلداته وصراع الفرد في سبيل القانون ونصرة المظلوم.. وكان أيضا يحب الوسترن.

رحلة إلى الشمال الفيلم يحتاج إلى سيناريو أمتن كتابة وأكثر صعوبة من السياق الروائي وما يرد فيه من أحداث. لكن «قفص الذهب» لدييغو كويمادا داياز ليست لديه هذه المشكلة، وهو يدور في رحى وضع لا يختلف كثيرا من حيث إلمامه بالثقافات والمصاعب التي تحد من بناء الفرد لمستقبله على نحو سليم.

الفيلم مكسيكي ويدور حول ثلاثة أولاد وفتاة (تقص شعرها وتلف بدنها متظاهرة بأنها صبي) ينطلقون من قريتهم في غواتيمالا متجهين شمالا إلى المكسيك بغاية الوصول إلى الولايات المتحدة حيث سبقهم سواهم ممن دخلوا البلاد بصورة غير شرعية. أحد هؤلاء الثلاثة من إحدى القبائل (اسمها تزوتزيل) التي تعيش في المرتفعات والتي لا تجيد الإسبانية لكنه انضم إلى العصبة الصغيرة من بداية الطريق. الفيلم يأخذنا في نحو ساعتين من موقع إلى موقع وما يحدث على الطريق الطويل من مخاطر ومداهمات. هناك الجيش تارة، وهناك عصابات السرقة تارة وفي تارة أخرى عصابات التهريب وصولا إلى رصاص شرطة الحدود الأميركية. وفي كل مفترق من الرحلة يخسر الفريق فردا: أحدهم (كارلوس شاجون) يعدل عن السفر. الفتاة سارا (كارين مارتينيز) يُكتشف أمرها وتقاد مخطوفة من قبل إحدى العصابات (نتوقع أن نراها مرّة أخرى بعد خطفها لكن ذلك لا يقع). الهندي شوك (رودولفو دومينيك) يقتل برصاص قناص أميركي ولا يبقى سوى خوان (براندون لوبيز) الذي ينتهي الفيلم به وهو ينظر إلى هطول البَرَد عليه ليلا). لقد وصل وحده لكنها ليست خاتمة الأزمات بالضرورة.

«أرضي ذات الفلفل العذب» يذكر بأفلام الهجرة شمالا كما وردت في أفلام أميركية ومكسيكية ولاتينية أخرى كثيرة. وهو عمليا يختلف في أنه يقع على الجانب البعيد من الحدود الأميركية متعاطيا مع رغبات أبطاله ومئات أمثالهم من الحالمين بتحقيق حلم أميركي صغير وهو أن يركبوا القطارات (أو بالأحرى أن يمتطوها كونهم يعتلون أسطح قطارات الشحن أكثر من سواها). لا لزوم لتأكيد المعاناة والمخرج يترك للمعاناة أن تتبلور وحدها من دون مساعدة عاطفية من جانبه. هناك عداء بين خوان وشوك لمعظم النصف الأول من الفيلم، لكن شوك الهندي ينقذ حياة خوان ذات مرة والثاني يرد المعروف والعداوة تتحوّل إلى صداقة بين ولدين ينوءان تحت ثقل الحلم الذي يحملانه.