متحف الجامعة الأميركية في بيروت.. ملتقى محبي التاريخ والحضارات

يعتمد على طريقتي التسلسل الزمني والمجموعات .. ويضم 10 آلاف قطعة أثرية

متحف الجامعة الاميركية من الخارج (« الشرق الأوسط»)
TT

يعد ثالث أقدم متحف في منطقة الشرق الأوسط، من حيث الأهمية والموقع والمحتويات، بعد المتحف المصري، ومتحف القسطنطينية في إسطنبول.

إنه متحف الجامعة الأميركية في بيروت الذي تأسس في عام 1868 عندما منح الجنرال شزنولا، القنصل الأميركي في قبرص مجموعته من الفخار الملون والمزين إلى الجامعة، في مبنى بوست هول، بعد عامين فقط من تأسيس الجامعة، وهو لا يزال في المكان ذاته حتى اليوم.

واللافت أن المتحف ليس متحفا محليا وحسب، بل إقليمي الأبعاد، بحسب المقتنيات التي تعرض مراحل وحقبا لسبع دول وشعوب، حكمت هذه المنطقة من العالم.

وتقول أمينة المتحف الدكتورة ليلى بدر التي التقيناها داخل المتحف: «هناك 4 آلاف قطعة أثرية معروضة اليوم، في قاعات المتحف الذي تم الانتهاء من تأهيله قبل أشهر، قطع تروي تاريخ كل الشرق القديم وتطور الحضارات فيه منذ العصر الحجري الأول، أي منذ بدء الخليقة وحتى العصر الإسلامي».

يضم المتحف قاعتين؛ تحوي الأولى مقتنيات ترجع إلى نصف مليون سنة قبل الميلاد حتى 1200 سنة قبل الميلاد. أما الثانية، فتؤرخ للفترة ما من 1200 قبل الميلاد وحتى 1300 ميلادية.

ويضم المتحف مجموعات نادرة، من الفخاريات القبرصية من العصر البرونزي إلى الحقبة الرومانية، وقطعا نقدية من القرن الخامس قبل الميلاد وحتى الحقبة الإسلامية، وخزفيات إسلامية من بدايات الإسلام، وزجاجيات من سوريا وفلسطين تعود إلى العصور الفينيقية حتى ما بعد ظهور الإسلام بقليل.

ومن المعروضات أيضا مجموعاتٍ من الأواني والأدوات والأسلحة والمجوهرات الذهبية ومزهريات المرمر المصرية والنقوش وأدوات الزينة، وتماثيل من تدمر وفسيفساء من بيروت، وصكوك من العراق وعدد كبير من المنقوشات والمخطوطات القديمة.

وتتميز هذه المجموعة من القطع الأثرية بغناها من جهة، واختلاف دول منشئها من جهة أخرى، إذ لم يُعثر على مجملها خلال حفريات أثرية علمية، بل عبر المقايضة والشراء والهبات.

وتتابع بدر أن المتحف هو من أحدث وأجود المعارض في طريقة العرض والإنارة، وفيه طريقة السماعيات، فكل من يحضر إلى المعرض، بإمكانه بالرؤية البصرية، والسرد بأسلوب مميز أن يروي قصة المتحف والمعروضات فيه وأن يكتشف أهميته، من ناحية موقعه والمحتويات التي تميزه.

وحول طريقة العرض توضح: «أعتقد أن رؤية القطع في مراحلها التاريخية أي بحسب التسلسل الزمني تخوّل الزائر فهم تطور الحضارات، بيد أن عرضها في مجموعات (تدمج القطع) بحسب موضوعها يحوّل القطعة إلى جزء من فكرة ما؛ إيمان أو عادة كانت تعيشها الشعوب القديمة».

أما حينما تعرض كل هذه القطع معا يتضح كيف تطورت المفاهيم عبر الزمن، مما يسمح للزائر بالقيام بمقاربات لفهم أهميتها. وهذا ما دفع ببدر إلى اعتماد طريقتين للعرض: «الأولى بحسب التسلسل الزمني، والثانية بحسب المجموعات»، مزيج الطريقتين يعطي للمتحف هويته، وفق بدر.

وعندما يدخل الزائر إلى المتحف، تقود المعروضات في الواجهات خطواته عبر القاعات. فهي سهلة الفهم، واضحة، وخصوصا أن الرسوم المستعملة في خلفية الواجهات تشرح الاستعمال التاريخي للقطع المعروضة بشكل سهل، جميل، وفيه شيء من الطرافة في مشاهد الصيد، والتجارة.

قطع فنية منفردة لا تخبر عن قصة مدينة أو حضارة ما، بل تدخل في الصورة الأوسع لتاريخ الحضارات.

وما يميز هذا المتحف هو اعتماد تسمية «الحضارة الفينيقية» لفترة العصر الحديد، وإبراز الدور الحقيقي لهذا الشعب في تاريخ الحضارات، وهو بالتحديد ما يفهمه الزائر حينما يتمعّن في المجموعات التي تجسد فكرة ما.

فمثلا يلاحظ الزائر الخصائص والمميزات، التي تمتع بها هذا الشعب بدءا من اللون الأرغواني وكيفية استخلاصه وصناعته وصباغته، في شواطئ مدينة صور.

أما بخصوص التجارة والملاحة البحرية، فالجرار التي اكتشفت في وسط بيروت، أكدت الدراسات والأبحاث أن الفينيقيين استعملوها في تصدير زيت الزيتون إلى الخارج، واهتموا بصناعة الزجاج، فقاموا بطريقة النفخ، في إبرازه واستعماله، في الأدوات المنزلية والحلي.

وفي ما يتعلق بمجال الطب، فاشتهروا في طب الأسنان، فصبّوا الفك العلوي والأسفل للإنسان، وهذا يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، فتم إيجاد السلك الذهبي في رفات الفينيقيين، كان يجمع الأسنان بعضها ببعض.

وبخصوص الديانة، فقد كان أصحاب الحضارة الفينيقية، أكثر ممن استعملوا الخرزة الزرقاء ضد صيبة العين، كما كانوا يعتقدون ويؤمنون بها.

وانتقالا إلى اللغة، نجد أن المؤرخين والكتبة عند الفينيقيين، أبرزوا أهمية اللغة الأبجدية، وكيفية تحويلهم الكتابة، من الطريقة المسمارية، إلى الطريقة الخطية بعد اكتشافهم الأبجدية الصوتية، أي إن كل حرف يجسّد صوتا، وهو ما نستعمله اليوم.

أما عندما ينظر الزائر إلى خزائن «التجارة»، فيعي جيدا أن الفينيقيين لم يكونوا أول من ركب البحر، ولكنهم توسعوا في أرجاء البحر الأبيض المتوسط، وطوّروا تجارتهم التي بدأت مع مصر الفرعونية، ومنها إلى بقية المدن.

وردا على سؤال تجيب بدر، وهي رئيسة المجلس العالمي للمتاحف في لبنان (ICOM): «يفوق عدد القطع الأثرية التي يمتلكها المتحف اليوم 10 آلاف، فمع مرور الزمن، تزايدت الهبات وبدأ العمل الجدي لإنشاء متحف، فانكبّ المسؤولون على شراء القطع والمقايضة مع المتاحف الأخرى».

وهكذا تكوّنت المجموعة وعاش المتحف الذي أصبحت له مع مرور السنين مكانة عالية في حياة بيروت الثقافية، وبات ملتقى محبي التاريخ والحضارات.

ومن هنا، كانت عملية إعادة التأهيل التي خضع لها المتحف في الآونة الأخيرة ضرورية، إذ يجب أن يتماشى مع أحدث تقنيات عرض القطع، فبدأ رصد الأموال، وارتفعت تكلفة المشروع النهائية إلى 1.5 مليون دولار أميركي، جمعها المتحف من الهبات ومن رابطة أصدقاء متحف الجامعة الأميركية.

تجدر الإشارة إلى أن المتحف يستقبل آلاف الزوار سنويا من داخل لبنان وخارجه.