أفضل أفلام «كان» عمره 60 سنة.. و«عمر» يخطف جائزة لجنة تحكيم مسابقة «نظرة ما»

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (10)

لقطة من «عمر» الفائز بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة «نظرة ما»
TT

فاز الفيلم الفلسطيني «عمر» بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة «نظرة ما»، ثاني أهم التظاهرات في مهرجان «كان»، الذي انتهت أعمال دورته السادسة والستين، ليل أمس (الأحد). وجاء إعلان نتائج مسابقة «نظرة ما»، خارج إطار الاحتفال النهائي الذي أقيم في الساعة السابعة ليلا.

بفوز «عمر»، الذي يتناول وضع شاب فلسطيني متهم بالعمالة لمخابرات الجيش الإسرائيلي من ناحية، ويضغط عليه ضابط المخابرات لكي يفشي أسرار رفاقه من ناحية أخرى، يكون المخرج هاني أبو أسعد عاد لتبوأ مكانته العالمية التي يستحق بعد سنوات من الغياب (اقرأ المقابلة معه في مكان آخر هنا) أنجز فيها فيلمين عاديين. وكان أبو أسعد انطلق للعلن حينما قدم قبل ثماني سنوات فيلم «الجنة الآن» الذي خطف من مهرجان برلين إحدى جوائزه الحاسمة ثم دخل مسابقة الأوسكار حيث فاز بالترشيح الرسمي لأوسكار أفضل فيلم أجنبي.

المخرج الدنماركي توماس فنتربيرغ ترأس لجنة التحكيم الخاصة بتظاهرة «نظرة ما» التي ضمت أيضا الممثلة الصينية جانغ زيي والممثلة الفرنسية لودفين سانييه ورئيسة مهرجان ريو دي جانيرو، إلدا سانتياغو، كما المنتج الإسباني إنريكو غونزاليس ماشو.

وحكمت اللجنة بفوز الفيلم الجيد «الصورة المفقودة» للمخرج الكمبودي ريثي بالجائزة الأولى، وهو فيلم تسجيلي حول عنف وقسوة سنوات عصابات الخمير روج الكمبودية النظامية ما بين عامي 1975 و1979. وفي حين حل فيلم «عمر» ثانيا، فإن هذا يعكس (على الأرجح) المناقشات التي سادت لجنة التحكيم في عملية اختيارها من يكون الفيلم الفائز بين هذين العملين. في مطلق الأحوال، ذهبت جائزة أفضل مخرج إلى ألان غويرودي لفيلم «غريب عند البحيرة»، ونال فريق ممثلي فيلم «صندوق الذهب»، وهو فيلم مكسيكي - إسباني لدييغو كومادا - دييز (وجل الفريق مؤلف من غير المحترفين) جائزة أفضل موهبة جديدة، وذهبت جائزة أخرى لفيلم «محطة فروتفال» للأميركي رايان كوغلر.

* بورنو قشيش

* لكن التوقعات الكبيرة تبقى من نصيب المسابقة الرئيسة والسؤال الذي يطرحه الجميع هنا (والذي طرحناه في «الشرق الأوسط» من اليوم الأول) هو كيف سيتعامل المخرج ستيفن سبيلبرغ رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، مع أفلام هي - لجانب أنها متضاربة - لا تحوي تحفة واحدة ولا يعلوها فيلم واحد من دون شوائب. هذا إلى جانب رعونة كبيرة من قِبل النقاد الفرنسيين، الذي أجمعوا (تقريبا) على منح فيلم عبد اللطيف قشيش، أعلى درجات التقييم، على أمل أن يؤثر ذلك على رئيس لجنة التحكيم وأعضائها. لكنه أمل ضعيف، إذ ليس متوقعا، وللمخرج سبيلبرغ، بمبادئه المنافية لروح هذا الفيلم، أن يتعامل معه على أساس سينمائي، وليس أخلاقيا.

بكلمات أخرى فيلم قشيش، وعنوانه «الأزرق أكثر الألوان دفئا» هو فيلم يحوي من العري والجنس أكثر مما ذهب إليه أي مخرج فرنسي من قبل، باستثناء مخرجي أفلام «البورنو». وقد اختار له حكاية واردة في كتاب مصور بعنوان «حياة أديل» يروي علاقة شاذة بين امرأتين. عوض أن يواصل سرد الحكاية (المتعبة سياقا في الأساس) عمد إلى نحو 5 دقائق حامية الوطيس من الممارسة الجنسية بين المرأتين لا ترغب فيها الكاميرا بالإيحاء بما يحدث بينهما، بل تصوره وتعرضه كما هو.

هناك زملاء يرون أن الفيلم «إيروتيكي» فقط، بينما آخرون يرونه «بورنو» والفارق في الواقع، وحسب المرتسم على الشاشة، نحيف جدا، لا يكاد يقع. الواقع هو رغبة المخرج الفرنسي المولود في تونس باللهث وراء مثل هذا الصيت الداوي والسعفة، إذا ما تحققت له. وفي حين أن الفيلم يقسم الحاضرين إلى مدافعين على الحد الأدنى من مقومات أخلاقية وآخرين ليبراليين يريدون هدم ذلك الحد، فإن طرح الفيلم على أسس سينمائية بحتة هو السبيل الوحيدة لتقييمه، وفي هذا الإطار فإن «الأزرق اللون..» يأتي باهتا. بداية هو ليس بجودة أفلام قشيش السابقة («كُسكُسي مع السمك» و«فينوس السوداء») وثانيا حتى تلك الأفلام، ومن وجهة نظر سينمائية بحتة، لا تخلو من شوائب تبرز في فيلمه الجديد هذا بوضوح، وأهمها أن المخرج يمسك بكاميرا تمسح الوجوه وتنتقل في بانوراميات بين المتحدثين في ثرثرة لا تنتهي. أولئك المدافعون عن الفيلم لا يرون في ذلك أي خلل. لكن المتحررين من عقد إظهار الالتزام باختيارات المخرج المذكور يجدون في ذلك خلوا من ملكية التعامل مع عنصري السياق السردي الصحيح (خصوصا أن الفيلم مستطيل الشكل ومستطرد المواقف بقليل من الأحداث) والمونتاج.

* يارموش الكسول

* آخر العروض المتسابقة كانت في فيلمين يقعان في خانة الفشل (وليس من المتوقع، والنتائج لم تعلن بعد حين إعداد هذه الصفحة للنشر) هما «فقط العشاق بقوا على قيد الحياة» و«فينوس في الفراء».

الفيلم الأول كان إضافة آخر لحظة لأجل كسب اسم مخرجه جيم يارموش الذي هو من زبائن «كان» التقليديين، وذلك منذ أن عرض فيما كان يُسمى بـ«القسم الموازي» فيلمه المبكر «أغرب من الجنة» سنة 1984. بعد ذلك عاد 9 مرات آخرها عبر هذا الفيلم المتوعك، بسبب غايات غير محققة؛ حكاية رجل وامرأة من مصاصي الدماء (فامبايرز) يعيشان من أمد بعيد، تدخل حياتهما في ذلك المنزل الداكن والمؤلف من عدة طوابق، شقيقتها الشابة التي تعتبرهما، كما تقول في الفيلم، مجرد «موضة قديمة» و«متكبران خسرا مكانتهما». الثلاثة يعيشون على غذاء واحد هو الدم يجدونه في القوارير التي تصل إليهم بانتظام عبر صديق من أحد الأطباء، لكن الشقيقة الصغيرة تستبيح لنفسها غرز أنيابها في عنق معاون الرجل، قبل أن يطردها من البيت. هو وامرأته يطيران إلى طنجة حيث يكتشفان أن كريستوفر مارلو (جون هيرت) الذي لا يزال حيا من منتصف القرن السادس عشر يحتضر بعدما تناول دما فاسدا. في رغبتهما بالبقاء حيين يهاجمان شابا وفتاة جالسان في راحة الليل وينتهي الفيلم بلقطة كبيرة متوسطة للثنائي وهما يهاجمان العاشقين الشابين بأنياب مشرعة.

الثنائي المذكور مؤلف من توم هدلستون وتيلدا سوينتون والشقيقة تؤديها ميا وازيكوفسكا، وهناك دور صغير لجفري رايت وآخر لجون هيرت. جيم يارموش كتب حوارا يعتمد فيه على اللعب بأسماء بعض الشخصيات؛ فالدكتور الذي يؤمّن الدواء يحمل ألقابا منها «دكتور كاليغاري» على اسم بطل الفيلم الألماني الصامت (1920) «عيادة الدكتور كاليغاري» لروبرت واين. أما اسم كريستوفر مارلو، فهو الشاعر والأديب البريطاني الذي اشتهر بمعاداته لويليام شكسبير.. هذا، وبضع استخدامات فكاهية أخرى لا تنقذ الفيلم من هوانه.

هو ليس فيلم رعب، بل شيء من الكوميديا المكتومة، واللعب بتفاصيل من نوع أن هذا الثنائي متزوج منذ سنة 1868 (بذلك يؤلفان أطول زواج في العالم). وهو فيلم داكن تبعا لحقيقة أن عالم مصاصي الدماء هكذا غالبا، كما تبعا لحكاية تحاذي أحيانا البرنامج التلفزيوني السابق «عائلة أدامز» التي انتقلت إلى السينما مرتين في عقد واحد (التسعينات). وهو ليس فيلم حركة ولا تقع فيه أحداث جسام، بل استطراد لموقف منتشٍ بالفكرة وحدها لأكثر مما يلزم.

* بولانسكي كاشف للذات

* فيلم رومان بولانسكي من ناحية أخرى هو أعلى تحديا مما يرد في عمل يارموش الكسول. مقتبس عن مسرحية للأميركي ديفيد آيفز حول مخرج وكاتب (ماثيو أمالريك) يستعد لمغادرة المسرح، حيث كان يجري تدريبات لملاقاة زوجته على العشاء، عندما تدخل ممثلة غير معروفة، اسمها فاندا، وتؤديها زوجة بولانسكي (تصغره بسنوات ضوئية) إيمانويل سيغنر. لقد وصلت لكي تقنع المخرج بصلاحيتها للدور. وفي البداية (وكما هو متوقع في مثل هذا الظرف) يرفضها ويطلب منها الخروج من المكان. لكنها تصر وتبكي فيستوقفها ويرضى بإجراء تدريب هو ما يأخذ الحيز الوحيد من الأحداث. فالفيلم مبني على ساعة ونصف الساعة من قيام المخرج والممثلة بمعايشة واقعين، هما رجل وامرأة في عالمنا، وشخصيتان من الإبداع المسرحي (بعدما رضي المخرج أن يمثل أمامها شخصية مقابلة بهدف نجاح التمارين).

هذا الوضع يحتوي على نقاشات واسعة الأرجاء تتناول رؤية المخرج في الفيلم للمرأة ولحياته ولعلاقاته مع النساء ولما يقال عنه في الكتابات الإعلامية، وسريعا ما يتبدى أن المخرج بولانسكي يودع في الممثل أمالريك نظرياته الخاصة مدافعا، في الغالب، عن رويته الفنية والشخصية الخاصة تلك التي شابها ومنذ عقود حادثا مقتل زوجته شارون تايت والتهمة الموجهة إليه بممارسة الحب مع قاصر. وبداية، قص بولانسكي شعر أمالريك ليبدو كما كان تصميم شعر بولانسكي في شبابه إلى جانب أن أمالريك فيه قدر من الشبه مع المخرج المعروف.

لكن الفيلم لا يبقى قيد محاولة للحديث عن الشأن الخاص، بل يندفع في تناول مسرحية وضعها كرواية قصيرة الكاتب النمساوي ليوبولد فون ساشر – ماسوش، التي استمدها من حياته الخاصة. هكذا ننتقل من فيلم إلى مسرحية ومن المسرحية إلى أصل روائي في تتابعات تشكيلية وذات أبعاد وتتضمن اتهام الممثلة للكاتب وللنص المسرحي بالتحيز ضد المرأة، ولعبة فأر وقط بينها وبين المخرج حول قلب المائدة وارتداء المخرج ملابس نسائية وتحوله إلى عبد، حسب لعبة «سادو - مازوشية». على أن كل ذلك، وتصوير جيد من باول إدلمان، لا يمنح الفيلم أكثر من حضور ماثل بعده يخفق في البقاء كحدث أو حتى كعمل بارز من المخرج الذي ربما، وحسب رأي زميل، أخذ - في مثل هذه السن - يميل إلى الحكايات المحدودة مكانا (هذا ثاني اقتباس مسرحي يقوم به بعد فيلمه السابق «أشلاء»).

* الفيلم الأفضل

* وإذا كان لا بد من تحديد أي فيلم تم عرضه في «كان» يستحق تصنيف «الأفضل» فإن التفكير يتجه إلى «فرتيغو»، فيلم ألفريد هيتشكوك الذي أنجزه قبل 60 سنة. هذا ليس نتيجة توجه هذا الناقد وحبه للأفلام القديمة (ولو أن هذا التوجه صحيح) بل، على الأقل، نتيجة استفتاء شمل مئات النقاد والسينمائيين قامت به مجلة «سايت أند ساوند»، قبل نهاية العام الماضي، حيث تبوأ فيلم هيتشكوك هذا القائمة لأول مرة، محتلا المركز الأول عوض فيلم أورسن وَلز «المواطن كاين» (1941). لكن بعيدا عن الاستفتاء فإن الفيلم، بعد كل هذه السنوات ومئات الألوف من الأفلام، لا يزال عملا يستحق القيمة التاريخية التي اكتسبها. ربما كلمة «أفضل فيلم في التاريخ» ليست صحيحة من حيث إنه لا يمكن تطبيقها على فيلم واحد (أين تذهب أفلام كوريساوا وأوزو وتاركوفسكي وبرغمان وعشرات سواهم؟)، لكن «فرتيغو» لديه قوة جذب لا تقاوم. عمل هو بوليسي ونفسي وعاطفي وفني في وقت واحد وكل واحد من هذه الجوانب في أعلى مرتبة يمكن بلوغها في فيلم.

يفتح الفيلم بـ«كلوز أب» على وجه امرأة.. الشفتان.. العينان.. النظرات المتنقلة بتوتر. الوجه ذاته يبقى بلا شعور واضح، لذلك تلك النظرات غير واضحة بأكثر من توترها. بعد ذلك هناك خطوط دائرية تلتف حول نفسها في الوقت الذي تبدو فيه تلك الدوائر كما لو كانت خارجة من الوجه إلى الوجه. من وجه المرأة إلى وجه المشاهد. دورانا يرمز للعنوان كما للحالة النفسية الغامضة التي سنشاهدها.

المتوقع هنا إذا أننا سنصادف امرأة ربما كانت خطرة. ربما كانت حائرة. بالتأكيد تمر بأزمة. لكن اللقطات الأولى بعد ذلك هي لبطل الفيلم سكوتي (جيمس ستيوارت) الذي نراه هو من يمر بأزمة. قطع ليد تمسك بقضيب حديدي. حين ترجع الكاميرا للوراء فإن الصورة توضح صعود رجل إلى سطح مبنى في ليل سان فرانسيسكو. يركض الرجل يتبعه رجل بوليس بالزي الرسمي وآخر بالزي المدني. إنهما يطاردان مجرما والبوليس الأول يطلق النار في الهواء إنذارا، لكن المجرم يواصل الركض قافزا من هذا السطح إلى آخر منحدر. الشرطي يقفز بدوره بنجاح.. الشرطي المدني يقفز لكني ينزلق فوق السطح، لا يمنعه من الوقوع من عل سوى إطار معدني يحيط بحافة السطح. موقفه حرج؛ ففي أي وقت قد تضعف قبضته على ذلك المعدن ويهوي. الشرطي ذو الزي الرسمي يقلع عن مطاردة المجرم ويعود لكي ينقذ ذلك الشرطي المعلق بين الحياة والموت، لكنه يسقط من عل وهو يحاول إنقاذه.

في دقيقة ونصف الدقيقة رسم المخرج وضعا خطرا يحتوي على مأزق حياة أو موت. وفي المدة ذاتها قدم بطله في حادثة ستشكل خلفية شخصيته ومبررا لتصرفاته اللاحقة. فذلك التحري العالق هو سكوتي (جيمس ستيوارت) الذي نراه بعد أشهر من الحادثة وقد تقاعد. لن نعلم كيف نجا سكوتي من الحادثة. سنراه في اللقطات الأولى بعد هذه المقدمة يعلن أن غدا هو آخر أيام استخدامه العكاز، لكن هيتشكوك لن يجيب إذا ما تحامل سكوتي على نفسه وزحف إلى أعلى، أو إذا ما وصل شرطي آخر وساعده. كذلك لا نعرف كيف حدث أن ساقه معطوبة بحيث يحتاج إلى عكاز.

تغيب هذه المقدمة قصدا عن لعب دور فيما سيلي؛ صديق سابق لسكوتي يطلب منه ملاحقة زوجته التي تتصرف على نحو غريب «لا تفهمني خطأ. حياتنا العاطفية جيدة، لكنها تبدو كما لو كانت تعيش في عالم آخر». يرضى سكوتي بالمهمة، وينقذ الزوجة مادلين (كيم نوفاك) من الموت غرقا ليقع في حبها، ويعلن له أنه سيحرسها ويلازمها، لكنها تفلت من بين يديه وتصعد منارة لكنيسة لتلقي بنفسها منها وتسقط ميتة. سكوتي مصاب بالدوخة الناتجة عن خوفه من العلو (أكروفوبيا) لذلك لم يستطع الصعود أكثر من طابقين قبل أن يتوقف ليعيش حياته بعد ذلك شاعرا بالذنب أنه لم يتمكن من إنقاذ المرأة التي أحب.

لكنه فجأة يجد نفسه أمام امرأة تشبهها تماما، ويجد أن علاجه من يأسه وبؤسه هو أن يجعلها تتماثل شكلا مع المرأة التي انتحرت. ترفض ويصر، ثم يكتشف أنها هي ذاتها المرأة، وأنه كان ضحية لعبة غادرة. فالزوج أراد التخلص من زوجته (التي لا نراها في الفيلم) فرسم خطة تقتضي توظيف خوف سكوتي من الأعالي، ولم تكن مادلين سوى المخلب.

هيتشكوك لم يخش مطلقا تقديم الحقيقة وكشف السر. المشاهد يعلم حقيقة ما جرى عندما تتذكر مادلين ملابسات الحادثة. لكن سكوتي لا يعلم. عوض استخدم الملابسات لتشكل غموضا سيكون مفبركا، ها هو يكشفه للجمهور مخلصا نفسه، والفيلم من عناء التمسك بخيوط واهية وتحويل الحكاية، عوض ذلك، إلى تجسيد لموقف بوليسي لغزي من الصنف الأول. في هذا الفيلم كشف عن الذات أيضا، فهيتشكوك كان يحب الشقراوات، وكيم نوفاك مقدمة كامرأة شقراء الشعر، مما يجعل سكوتي يمثل هيتشكوك في هذه الناحية.

كيم نوفاك (الوحيدة التي ما زالت على قيد الحياة بين المذكورين) كانت حاضرة بسنواتها الثمانين، وخصت في كلمتها جزءا للرد على الكذبة التي أشاعها فيلم «هيتشكوك»، كما أخرجه في العام الماضي واحد باسم ساشا جرفازي، الذي تبنى الإيحاء بأن هيتشكوك كان محبطا وسكيرا، وأن زوجته هي من وقف وراء إبداعاته، فقالت: «هيتشكوك ليس بيننا ليدافع عن نفسه، لكنه كان من ألطف المخرجين وأكثرهم موهبة».

* مقابلات «كان»

* هاني أبو أسعد الفائز بجائزة لجنة تحكيم «تظاهرة ما»: شبابنا محبط والفيلم نافذة أمل

* كما ورد هنا سابقا، يتحدث «عمر» عن شاب فلسطيني (يقوم به أدام بكري) واقع في حب فتاة اسمها ناديا (ليم لباني) التي تبادله الحب وهو ينتظر فرصة مفاتحة شقيقها طارق (إياد حوراني). عمر وطارق وصديق ثالث اسمه أمجد (سامر بشارات) يشتركون في إطلاق النار على جندي إسرائيلي. الأمن يقبض على عمر الذي ينفي التهمة لكنه لا يعترف بمن أطلق النار حتى بعد تعذيبه. يحقق معه ضابط استخبارات يجيد العربية، ويكني نفسه برامي (وليد زعيتر) ثم يطلق سراحه لشهر واحد ليراجع نفسه: إما أن يشي بمطلق النار أو يعاد إلى السجن، حيث من السهل إصدار حكم عليه بالسجن المؤبد. كنا شاهدنا من أطلق النار فعلا، لذلك، وبنجاح، فإن علاقة الجمهور بشخصية عمر تعاطفية واضحة، أولا لأن عمر تعرض لإهانة الجنود قبل عملية الاغتيال، وثانيا لأنه تعرض للتعذيب، وقبل كل شيء لأنه بريء. الأحداث ستنقلنا إلى مواجهات متعددة لعمر: المخابرات الإسرائيلية الممثلة برامي من ناحية، طارق الذي يرتاب فيه من ناحية أخرى، وأمجد الذي كان من وشى بطارق ثم استغل الظرف وطلب يد ناديا التي وافقت على اعتقاد أن عُمر هو متعاون مع الإسرائيليين وخائن.

هذا كثير في ساعة ونصف الساعة على فيلم، لكن المخرج هاني أبو أسعد لا يضيع بوصلته.

* في فيلميك «الجنة الآن» و«عمر» هناك حكاية شاب فلسطيني يواجه اختيارات حاسمة. فإما أن يخون الجهة التي يعمل لحسابها، أو يختار الحياة.

لكن الأمر مختلف هنا تبعا لاختلاف القصة. في الفيلم السابق كان على الشاب أن يرتفع إلى قرار شجاع، وهو أن لا يفجّر نفسه في حافلة مدنية إسرائيلية. في هذا الفيلم الاختيار الذي تتكلم عنه أكثر وضوحا منذ البداية. عمر بريء من تهمة الخيانة، ولن يعمل ضد القضية. لكن الصحيح أن هناك مواجهة بين الحب والحياة والموت، لكن المسألة أكثر تعقيدا مما ورد في الفيلم السابق. هنا أطرح أسئلة حول قيمة الحب وحول الصداقة.. ما قيمتها عندما تخلو من الثقة؟ ما الأهم؛ الكرامة أو الحياة؟

كانت شكوى الأوروبيين والغرب عموما هي أن كل فريق يتحدث عن حقه. الفلسطينيون يقدمون أفلاما عن القضية ويرد الإسرائيليون بأفلام يدافعون فيها عن أنفسهم.. كيف عالجت هذا الموقف؟

- أولا المشاهد الأوروبي مستقل الإرادة، وأعتقد أنه يدرك أين يقف مما يدور. لكن ما يشغلني هو المشاهد العربي فهو محبط، وليس لديه أمل، لا أود الخوض في السياسة لكن الواقع المعاش، هذه الأيام أيضا، يجعله يائسا لا يجد فيما يقع أي رجاء يمنحه بعض التفاؤل. شبابنا متروك للضياع على عكس الشباب الأوروبي الذي تحميه القوانين وتشجعه على اتخاذ مواقف مستقلـة. وأعتقد أن الفيلم واضح في تعاطفه مع شخصيته الرئيسة. ليس هناك أي إشكال في ذلك. لكن هناك معايير لا بد منها لوضع عمر في موضع من يستطيع أن يكسب هذا التعاطف.

* مثل ماذا؟

- مثل تصوير الشخصية الند. لقد جملت قدر ما أستطيع شخصية الإنسان الذي لديه وظيفة بشعة.

* تقصد الضابط؟

- نعم. أولا لأن ذلك يمنح مصداقية ويتحول العمل بعيدا عن إظهار الصراع بين خير مطلق وشر مطلق، مما سيؤول على الفيلم بالسذاجة. ثانيا في الأفلام كلما كان المجرم ذا حضور واقعي، بدت شروره أكبر حجما.

* كيف تخلق التوازن الفعلي بين توجه الفيلم إلى المثقفين وهواة الأفلام وتوجهه إلى الجمهور السائد؟

- هذه أصعب مرحلة من العمل. لكن لا توجد نظريات في الواقع. إنه حس داخلي ليس من السهل الحديث فيه. الفيلم هو حالة رهان فلا يوجد تأكيد على أنك ستصل إلى جمهورين مختلفين في وقت واحد ومتساوٍ. إنه سير على حبل نحيف ودقيق جدا.

* هل يؤدي ذلك عادة إلى مراجعة السيناريو وتعديله أكثر من مرة؟

بالتأكيد. إنها في الأصل قصة حقيقية، وبالنسبة للضابط الذي كنا نتحدث عنه قبل قليل، فإن عمر في الواقع أطلق النار عليه في النهاية، وقتل معاونا له قبل أن يسقط برصاص المعاونين الآخرين. في الفيلم نتوقف عند رصاصة واحدة يطلقها عمر على الضابط رامي. وجدت أن الأثر المطلوب عليه أن يتوقف عند هذا الحد. في مكان آخر اضطررت لتصوير مشهد إضافي لم يكن واردا في السيناريو الأول عندما أجبر جنود الاحتلال عمر على الوقوف على حجر صغير ويديه مرفوعتين. كنت بحاجة إلى هذا المشهد لأوظفه في عملية اشتراك عمر في الخطة التي نتج عنها مقتل جندي إسرائيلي.

* أحد النقاد كتب أن الفيلم هو نوع من «الفيلم نوار».. هل توافق على ذلك؟

- نعم.

* لكن «الفيلم نوار» فيه خصائص مختلفة تماما.

(مقاطعا).. وهناك خصائص منه موجودة في هذا الفيلم. الفيلم «نوار» ليس فقط حكاية تقع في الظل والإضاءة الخافتة، بل هي مواقف تتدخل فيها العاطفة. المرأة التي تؤدي دورا خفيا في توجيه مصير الرجل، كما في هذا الفيلم.

* التصوير تحت الشمس الشرق أوسطية دائما ما شكل معضلة بالنسبة صانعي الأفلام.. كيف كسرت حدة الضوء في المشاهد النهارية؟

- هناك ما نسميه بـ«إطفاء اللون»، وهو فعل نقوم به لتخفيف قوة اللون وسطوع ضوء النهار. لكن ملاحظتك صحيحة؛ كثير من أفلامنا العربية لا تنجح في التعامل مع شمسنا في التصوير الخارجي، خصوصا الصحراوي منه، أو البيئي بشكل عام.

* كيف تقيم تجربتك في لوس أنجليس؟ لقد انتقلت إلى هناك بعد «الجنة الآن» مع وعود كبيرة لم تتحقق. أنجزت أفلاما صغيرة والآن تعود إلى الواجهة بفيلم يعيد إلى الذاكرة الفيلم السابق.

- حقيقة تعلمت من إخفاقي في هوليوود أكثر مما تعلمته من نجاحي في الانتقال للعيش والعمل هناك. نعم، في البداية كانت هناك مشاريع كثيرة بعضها كانت مما أطلبه لنفسي، لكن الأزمة الاقتصادية من ناحية ثم إضراب الكتاب فيما بعد وضع العراقيل. تم شطب أفلام كنت على وشك تصويرها.

* والآن.. أين تجد نفسك؟

- عدت إلى موقعي الصحيح وهو تحقيق أفلام عن قضايا ومواضيع عربية برؤية متطورة وعالمية. التمويل موجود. السيناريو والموقف هما من بين المصاعب التي تواجه المخرج خلال التحضير، لأن عليه دائما التعامل مع الصورة الأكبر للوضع، ومع الجهات الأجنبية الداعمة. لكن المشجع هو القدر الكبير من الاستقلالية التي يتمتع بها المخرج هنا في أوروبا.