مقهى العالية بـ«سيدي بوسعيد».. قبلة السياح والمغرمين والحالمين

يعد من أقدم مقاهي تونس وأعرقها

الواجهة الرئيسة لمقهى العالية («الشرق الأوسط»)
TT

«من يزر تونس العاصمة ولا يذهب إلى سيدي بوسعيد فإن زيارته تبقى منقوصة».. هكذا يردد أهالي مدينة سيدي بوسعيد. أما «المدمنون» على الجلوس في مقهى العالية بسيدي بوسعيد فيقولون: «من ينزل ضيفا على هذه المدينة ولا يجلس في (مقهى العالية) لاحتساء كوب شاي بالنعناع أو قهوة تركي، أو عصير برتقال، أو تدخين شيشة (نارجيلة)، فهو يفوت فرصة قد لا تعوض للاقتراب من التقاليد التونسية العريقة».

أثناء زيارتنا لمدينة «سيدي بوسعيد» كانت تونس تعيش على وقع الأحداث التي جدت في «حي التضامن» غرب العاصمة، وفي مدينة القيروان وسط البلاد، وخصوصا المواجهات بين تنظيم «أنصار الشريعة» وقوات الأمن التونسي. ولكن ذلك لم يمنع الكثير من التونسيين والأجانب من زيارة «سيدي بوسعيد» بحثا عن الفسحة وجرعة الأكسجين الضرورية التي يحتاجها التونسي في مثل هذه الأوقات.. وكانت مقهى العالية وجهة الكثير من هؤلاء. تقع مدينة «سيدي بوسعيد»، التي لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف ساكن، في الضواحي الشمالية لتونس العاصمة وتبعد عنها نحو عشرين كيلومترا. وتنتصب على هضبة متوسطة الارتفاع تطل على البحر.. وحيثما تنقلت في هذه الهضبة سيكون بإمكانك رؤية البحر. وتتسم المدينة بمعمار متميز لطالما ألهم الرسامين وصنع شهرة البعض منهم بفضل لوحات نقلت مظاهر الحياة في «سيدي بوسعيد»، أو تناولت طبيعتها الخلابة، وخصوصا زرقة بحرها، وأمواجه التي تلاطف منذ قرون سفح هذه الهضبة ولا تزال.

وردا لجميل هذا البحر ربما.. اتخذ أهالي المدينة اللون الأزرق كطلاء لأبواب ونوافذ بيوتهم ومحلاتهم. ولهذه الأبواب والنوافذ للبنايات في المدينة شكل فريد من نوعه أصبحت تعرف به تونس عالميا، وخصوصا الأسيجة الحديدية للنوافذ، حتى إن البعض أصبح يطلق عليها تسمية نوافذ «سيدي بوسعيد». وقد درج الكثير من التونسيين على تقليدها عند تشييد منازلهم حتى وإن كانوا في مناطق بعيدة عن شاطئ البحر. في قلب مدينة «سيدي بوسعيد» وفي منتصف الهضبة تقريبا يوجد «مقهى العالية» ويسميه آخرون «مقهى الحصائر» (جمع حصير) لأن باحته الرئيسة عبارة عن مجموعة من السدات (جمع سدة)، وتسمى في تونس بـ«الدكانة»، ولكنها أقل ارتفاعا من السدة عن سطح الأرض. وتفرش «الدكانة» بالحصائر الملونة المصنوعة من نبات ينمو بشكل عشوائي في مدن الجنوب التونسي، ويسمى «السمار»، وهو قريب من نبتة الحلفاء ولكنه أشد وأسمك منها.

وقد جاء ديكور الباحة الرئيسة للمقهى والألوان المستعملة فيه على الشكل الذي تزين به مقامات الأولياء الصالحين، حيث يطغى عليه اللونان الأحمر والأخضر.. وليس في الأمر غرابة، فمدينة «سيدي بوسعيد» تحمل اسم أحد هؤلاء الأولياء وهو «سيدي بوسعيد الباجي». وقد علقت على أحد حوائط هذه الباحة الرئيسة للمقهى نسخ من مقالات لصحف عالمية مشهورة كتبت عن مقهى العالية وعن سيدي بوسعيد. في حين علقت على حائط آخر صور المشاهير من فنانين وسياسيين زاروا المقهى. كما علقت في كامل الأرجاء لوحات زيتية لرسام تونسي هو صديق لعائلة «بن سعيد» التي تدير المقهى منذ نشأته منتصف القرن التاسع عشر جيلا بعد جيل.

وعدا الباحة الرئيسة يحتوي المقهى على جانبي بابه الرئيس، الذي تصل إليه بعد صعود مدرج كبير، على شرفتين متفاوتتي الارتفاع تطلان على البحر وعلى الشارع الرئيس للمدينة، فضلا عن فضاء أرضي بدا وكأنه جزء من هذا الشارع الرئيس، نصبت فيه طاولات وكراسي عادية وقد تمت إضافة هذا الفضاء في السنوات الأخيرة نظرا للإقبال الذي أصبح يعرفه المقهى.

لا أحد يستطيع أن يجزم بأن «مقهى العالية» هي أقدم مقاهي تونس.. ولكن الثابت أنه أشهر مقهى على الإطلاق... فلا مفر للمغرمين، أو لمن هم في فترة الخطوبة من سكان العاصمة ومن زوارها من المجيء إلى المقهى لتسجيل لحظة مهمة في علاقة حبهم وأخذ صورة في المقهى.. وإن فوتوا على أنفسهم ذلك في هذه الفترة، فمن المؤكد أنهم سيفعلون ذلك بعد الزواج.

يقول وليد وهو أحد أفراد عائلة بن سعيد التي تدير المقهى، إن «شهرة المكان بقيت صامدة لأن العائلة حافظت على التقاليد.. واختارت عدم الانسياق وراء الموضة وما تقدمه المقاهي العادية»، مضيفا قوله: «نحن نتعامل مع المقهى على أنه معلم تاريخي وجزء من تراث مدينة (سيدي بوسعيد).. بل إن المقهى هو روح (سيدي بوسعيد) نفسها».

أما «ميشال» وهو مواطن فرنسي يقيم في «سيدي بوسعيد» بشكل دائم منذ خمس سنوات فقد قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه «يأتي إلى المقهى كل يوم في الصباح وفي المساء، لأنه يحسن بنفسه في عمق التقاليد التونسية العريقة، وذلك بفضل الديكور والزخارف وحتى الخدمات ونوعية المشروبات المقدمة»، مضيفا: «امتياز هذا المقهى أنه حافظ على التقاليد.. فأنت هنا وسط التقاليد دون أن تحس بأي وزر لها عليك». ويؤكد وليد لـ«الشرق الأوسط» أن زوار المقهى من كل الفئات وهم من التونسيين ومن السياح، وأن الإقبال يشهد ذروته في عطلة نهاية الأسبوع (يوما السبت والأحد)، مضيفا: «لم تنجح أي محاولة لاستنساخ مقهى العالية، سواء في سيدي بوسعيد أو في الأماكن الراقية الجديدة لتونس العاصمة التي تتوالد المقاهي فيها كل يوم»، منهيا حديثه معنا بقوله: «مقهى العالية كان وسيظل مكانا فريدا من نوعه في تونس».

السيدة سعاد، وهي أستاذة جامعية في الحقوق، جلست في إحدى شرفات المقهى، تنظر باتجاه البحر، لتلتقط من حين لآخر بعض الصور من هاتفها الجوال. وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «أنا لا أفوت أي فرصة للمجيء إلى (سيدي بوسعيد) والجلوس في مقهى العالية لأن هذه المدينة تتيح لك إمكانية الحلم، ونحن اليوم في أشد الحاجة للحلم». وتضيف: «على الرغم من أنني من مدينة الحمامات السياحية فإنني أعتبر هذا مختلفا جدا.. وأحس براحة كبيرة فيه».

محمد علي الذي يعمل دليلا سياحيا قال لـ«الشرق الأوسط» إن الكثير من السياح الذين يرافقهم، وخصوصا الفرنسيين منهم، يعرفون مقهى العالية أو سمعوا عنه، ويطالبون بتخصيص جزء من برنامج زيارتهم إلى سيدي بوسعيد للجلوس بهذا المقهى»، مضيفا: «إن ما يجلب السياح إلى مثل هذه الأماكن هو محافظتها على خصوصية معينة في علاقة بالتقاليد التونسية». ما لاحظناه خلال جولتنا بـ«سيدي بوسعيد» وجود عدد محترم من السياح، وذلك منذ أن دخلنا مأوى السيارات بوسط المدينة، حيث وجدنا عددا من حافلات النقل السياحي كبيرة الحجم. وقد تأكد هذا الانطباع من خلال وجود عدد من هؤلاء السياح بمقهى العالية أو في محلات بيع منتجات الصناعات التقليدية التونسية القريبة منه. ويقول محمد علي: «عودة الموسم السياحي إلى نسق طبيعي هو أكبر ما يتمناه التونسيون، نظرا لتأثيره الإيجابي على الكثير من المهن المرتبطة بالسياحة على غرار المقاهي التقليدية»، وهي نفس الأمنية التي عبر عنها نادل يعمل بمقهى العالية، مؤكدا أن نشاطها يتأثر بمدى إقبال السياح على المدينة.