شارع المعز لدين الله يضيء جغرافيا القاهرة الفاطمية

أكبر متحف إسلامي مفتوح في العالم بدأ التعافي مجددا

أحد مقاهي شارع المعز المتاخمة لبيت السحيمي يحتفي بأعمال نجيب محفوظ («الشرق الأوسط»)
TT

يستأنس شارع المعز لدين الله شمس الصيف الحارق، فيطيب لزائره التمهل. ومع التمهل يكون الانتباه، فتتجاوز سريعا بهرجة الألوان الزاهية لدكاكين العطارة وتجار العاديات وبائعي النارجيلة، التي تصطف على جانبي الشارع الذي يقع في حي الأزهر، في قلب القاهرة الفاطمية، وتتهيأ لاستقبال عطر الأزمنة القديمة، قبل أن تكتشف أنك حقا أمام أكبر متحف إسلامي مفتوح في العالم.

في شارع الأزهر وبعد أن تكون قد خلفت وراءك بالفعل جامع الأزهر والمشهد الحسيني تنعطف يمينا، وعلى أرضية من الغرانيت الأسود، وفي ونسة من روائح البخور والتوابل، تغادر زمنا صاخبا إلى زمن آخر مفعم بالسكون المشمس. حينئذ تستقبلك مدرسة ومسجد السلطان الأشرف برسباي. تصعد درجا، يقودك دهليز إلى صحن المسجد فتقف أمام روعة الفنان الشرقي وحسه الروحي، يتجسد من المنبر إلى مقعد قارئ القرآن، ومن تعشيقات الأسقف إلى تكسيات الجدران وزخارف الأبواب فتظن أنك اكتفيت.

لكن بعد أن تلتقط أنفاسك وتلملم دهشتك يوقظك مسجد وسبيل علي المطهر، وسبيل وكتاب خسرو باشا، فتعرف أنك في أول الدرب، فتكف عن تعجل الحكم، وتسلم نفسك للرحلة في الشارع الذي حمل في ما مضي اسم «بين القصرين»، فينفتح التاريخ وتتجاور القرون؛ من زمن القائد جوهر الصقلي باني القاهرة (969)، مرورا بزمن المماليك البحرية والبرجية (1250 - 1517)، إلى زمن قاهرة نجيب محفوظ.

قاوم شارع المعز الممتد بطول 1400 متر بين شارع الأزهر جنوبا، وباب الفتوح عند أسوار مصر القديمة شمالا، صنوف الدهر. نجا من كوارث الطبيعة، وإهمال الأحفاد، وتنفس الصعداء قبل خمس سنوات مع مشروع تطويره، ثم سقط فريسة الانفلات الأمني في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، لكنه بدأ التعافي مجددا، وإن طالت الهموم أصحاب الحوانيت مع تراجع حركة السياحة في الشارع في أعقاب الثورة.

شيد جوهر الصقلي شارع المعز ليربط بين مصر القديمة ومدينة المنصورية، وهو الاسم الذي أطلق على القاهرة قبل أن يدخلها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في رمضان عام 972، ويجعل منها عاصمة دولته. وعرف شارع المعز السلع الرديئة قليلة التكلفة لأزمنة الرأسمالية الاستهلاكية عابرة الحدود، فانتشرت على جانبي الشارع تلك المنتجات تبرز تناقضا عميقا بين ما هو زائل، وما ينفع الناس.

ومع بداية عام 2008 عاد شارع المعز لدين الله إلى رونقه بعد عملية تطوير ضخمة، مع ترميم وتطوير واجهات المنازل والدكاكين بامتداد الشارع للتناسب مع روح المكان، وتغيرت أنشطة المحال لتتوافق مع طبيعته الأثرية ومتطلبات زائريه.

لا يبوح شارع المعز بأسراره سريعا، وحين ترى انعطافة خفيفة قرب منتصفه، وتعتقد أنك شارفت النهاية، ينفجر ينبوع من الجمال الآسر والمفاجئ. تتقاذفك المشاهد والصروح من مدرسة الصالح نجم الدين أيوب، إلى مدرسة الظاهر بيبرس، إلى قبة ومدرسة وبيمارستان السلطان المنصور قلاوون، فمسجد الناصر محمد بن قلاوون حتى مسجد السلطان برقوق وقصر الأمير بشتك.

ومع اتساع نهر الطريق أمام مدرسة الصالح نجم الدين أيوب ومدخل قبة المنصور قلاوون قبالتها، اعتاد رسامون جوالون الوقوف هناك في المنطقة الأغنى فنيا في الشارع العريق، أمام حوامل لوحات الرسم على غرار فناني باريس. هناك يلتقي شارع المعز مع شارع بيت القاضي، حيث ولد نجيب محفوظ في المنزل رقم 8، وسيستوحي محفوظ لاحقا رائعته «حكايات حارتنا» ليصف فيها ميدان بيت القاضي، ومعارك الفتوات، ويمكن – هنا - لقراء محفوظ معرفة جغرافيا رواياته.

قبل أن تتمكن من استعادة أنفاسك بعد تطوافك في الواحة المملوكية تلك، يجود الشارع من جديد بإبداعات من عصور مختلفة، فتجد حمام أنيال من عصر المماليك البرجية، ومدرسة ومسجد السلطان الكامل من عصر المماليك البحرية، وجامع الأقمر من العهد الفاطمي، وسبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا.

وما إن تعبر الدرب الأصفر حيث بيت السحيمي بكامل روعته حتى تعود من جديد إلى نفحات التاريخ من مسجد سليمان أغا السلحدار بزاوية أبو الخير الكليباني وحتى مسجد الحاكم بأمر الله، لتنتهي الرحلة مع بوابة الفتوح حيث كانت تدق طبول الحرب مع خروج الجيوش.

لا يخلو سكان الحي وأصحاب المحال به من هموم بسبب تراجع حركة السياحة وغلاء المعيشة بعد نجاح ثورة 25 يناير في الإطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك. يقول هشام، وهو صاحب محل عاديات، إن «الأحوال أصبحت صعبة جدا الآن.. كل شيء سعره زاد ولا نستطيع مجاراة هذه الزيادة، فالنحاس قفز سعره للسماء، وأمام ضعف الشراء نضطر للخصم من هامش الربح، إذا استفتحنا بزبون أو اثنين».

ظل شارع المعز قبل تجديده خارج الخريطة السياحية في مصر لسنوات. ولا تبدو الدولة عاقدة العزم على إعادة السياحة إلى هذا المتحف المفتوح حاليا، وباستثناء جهود بعض الشباب في محاولات إحياء السياحة بالشارع عبر مشروع «اعرف بلدك»، لا تزال هذه المنطقة العريقة تكافح الزمن وناسها يكافحون أعباء التاريخ.