بيكاسو ورينوار وسيزان مروا من هنا

الأعمال الفنية إلى جانب يخوت المليارديرات في أنتيب بالريفييرا الفرنسية

لوحة لبيكاسو
TT

بعض الأماكن لها سحرها الخاص الذي يرافقها طوال الدهر، ويجعلها تستقطب فئة محددة من الناس. أحيانا الجغرافيا تساعد، وأحيانا الجغرافيا ومعها التاريخ يساعدان أيضا. أما في أحيان أخرى فلا تاريخ ولا جغرافيا، والأمكنة تملك أسرارها التي لا يمكن أن تكشف. أنتيب القرية القديمة التي أصبحت مدينة تعد واحدا من هذه الأماكن، التي جعلها موقعها الجغرافي بين مدينتين شهيرتين على الساحل الفرنسي، هما نيس وكان، تلعب دورا سياحيا فريدا منذ زمن طويل جدا.

بالإضافة إلى أنها تمتلئ بالمقاهي والمطاعم الفاخرة، تشهد مدينة أنتيب حراكا ثقافيا وفنيا طيلة أيام السنة. فعدا عن كونها تضم في قصر غريمالدي أكبر تشكيلة فنية (نحو 245 عملا للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، وعدة لوحات لرينوار، وبعض آخر لسيزان، والأخيران من رواد الانطباعية وأساتذتها)، تشكل المدينة ملتقى مهما للفنانين من مختلف الجنسيات، خصوصا الإيطالية والسويسرية والكورسيكية، حيث يأتون لعرض أعمالهم، سواء في الغاليريهات الكثيرة المنتشرة في الأزقة، أو جدران الأزقة نفسها للفنانين الذين لا يجدون لهم أمكنة في هذه الأماكن. ثم المعرض اليومي الدائم في السوق الرئيسية، سوق البروفنسال، التي تتحول يوميا بعد انتهاء فترة التسوق العادي إلى مساحة لهؤلاء لعرض أعمالهم إلى جانب طاولات المطاعم والمقاهي المنتشرة. إلى جانب هذا تحتوي المدينة القديمة على واحد من أقدم المسارح في فرنسا، كما أنها تضم إلى جانب هذا المسرح مسرحا رومانيا لا تزال آثاره ماثلة حتى اليوم.

لم تكن أنتيب قبل قرن واحد سوى قرية صغيرة على الريفييرا الفرنسية. فيها ميناء صغير للصيادين، ومعظم سكانها وسكان القرى المجاورة الأبعد عن الشاطئ، أو تلك التي لشدة صغر حجمها لا ميناء لها. غير أن أنتيب ليست قرية/ مدينة جديدة، بل هي من الأماكن القديمة جدا التي تعود للعصور الرومانية، وفيها أكثر من دليل في مواقع الآثار التي تتناثر داخل المدينة القديمة وخارجها. وكانت لقرون عديدة من الأملاك العقارية لعائلة غريمالدي التي ما زالت حتى اليوم تملك وتحكم إمارة موناكو القريبة من أنتيب. ويعتبر قصر غريمالدي، الذي تحول إلى متحف بداية ثم تحول إلى متحف بيكاسو لاحقا، واحدا من هذه الأماكن التي تشهد لهذه المدينة بندرة موقعها الجغرافي الملاصق للبحر والمحاط بعدد من الروابي المشجرة التي تمتلئ بالملكيات الصغيرة الجميلة التي تتوسطها الفيلات أو القصور.

غالبية المدن القديمة تتشارك اليوم، خصوصا على الساحل الفرنسي المتوسطي، كونها مدن سياحية بامتياز. أنتيب لا تتجاوز هذا التعريف إلا في كونها ملاذا شهيرا للأثرياء وأصحاب اليخوت الكبيرة والصغيرة. هؤلاء يأتون إليها بقواربهم الفارهة، التي يعتبر البعض منها قرى عائمة على المياه.

ربما لذلك قال لي نادل مقهى بوابة أنتيب الوحيدة المطلة على الميناء «إن في الميناء الصغير هذا عدة مليارات من الدولارات». نظرة واحدة عن كثب، أو جولة على رصيف الميناء، كانت كافية للتأكد من كلام هذا النادل، الذي لم يكن يمزح أبدا. لاحظت أثناء زيارتي للمدينة القديمة والميناء توقف ثلاثة يخوت من الحجم الكبير، منها يخت الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش أفخمها وأكثرها شهرة. مع هذا، لا يبدو الميناء سوى موقف لليخوت، بينما أصحابها يتنقلون بين مدن الريفييرا التي لا تبعد كثيرا عن بعضها البعض.

ربما تكمن ميزة أنتيب والميناء أنهما نقطة الوصل بين أشهر مدن الريفييرا كان ونيس وبعدهما موناكو. مع ذلك، ليست هذه المدن وحدها ما يمكن أن يكون الجاذب الوحيد للأغنياء. هذه المنطقة ومعها القرى الجبلية المحيطة تعتبر واحدة من أغنى المناطق الجغرافية في أوروبا والعالم. في مكان ليس ببعيد عن أنتيب بيع قبل عدة سنوات أغلى منزل في العالم (فيلا ليوبولدا) بنصف مليار يورو، وكانت تملكه أرملة المصرفي اللبناني إدموند صيفرا.

قصر غريمالدي، الذي تحول إلى متحف يحمل اسم بيكاسو، المطل على البحر وشيد عام 1309 ميلاديا، يعد الوجهة الأكثر زيارة من قبل السياح بعد الميناء المرصوف باليخوت. ثمن عدد من اللوحات من أعمال الفنان الإسباني قد يكون كافيا لشراء يخت مواز في فخامته ليخت الملياردير الروسي. مع ذلك اليخوت لها سطوة الشكل والحجم والجمال الآسر. لها رهبة لا توازي أي رهبة أخرى. ولها إلى ذلك سطوة المال الذي يحول أنتيب من مجرد مدينة صغيرة وميناء للصيادين إلى وجهة لأصحاب الملايين وأيضا للمتفرجين على هذه الملايين من أصحاب الأحلام. والحق أن الأعمال الفنية التي يتضمنها قصر غريمالدي مضافا إليها الأعمال التي تعرض في أكثر من مكان من المدينة، توازي كنزا سيــاحيا، إذ السياحة لا تعني فقط المشي بين صواري اليخوت.