بينالي البندقية 2013.. فن ومطر

الجشع والمادية من أقوى المواضيع المطروحة

TT

التجول في أرض الجارديني حيث يوجد المعرض الرئيس لبينالي البندقية هذا العام، كان محبطا للكثير، فقد تحولت الطرقات الرملية إلى بقع مائية بفعل المطر المستمر، وتسبب الجو البارد والأمطار في تجمع زوار البينالي في الأماكن المغطاة ومداخل قاعات العرض أملا في توقف المطر ليستكملوا جولتهم. لكن الطقس في فينيسيا هذا العام لم يجامل محبي الفنون واستمر متقلبا باردا على غير عادته السنوية.

تبقى الجولة بين المعارض المختلفة فرصة للاحتماء من المطر وأيضا فرصة للتعرف على فنون إحدى الدول المشاركة وإن كانت بعض الأجنحة أثبتت أن المشي تحت الأمطار قد يكون أمتع من التوقف بها، مثل أجنحة البرازيل واليونان وبولندا ورومانيا. الجناح الأميركي جاء مخيبا للآمال، أما البريطاني وهو تحت عنوان «السحر الإنجليزي»، فكان تعبيرا عن السخط على سيطرة الجشع والمادية على كل شيء، متمثلة في لوحة جدارية ضخمة للفنان جيريمي ديلار تصور الفنان الاشتراكي منذ العهد الفيكنوري ويليام موريس على هيئة عملاق يخوض الماء ويحمل يخت الملياردير أبراموفيتش ليقذف به في البحر. وكان الملياردير الروسي قد أثار غضب الكثيرين منذ عامين عندما أرسى اليخت الخاص به «لونا» بالقرب من أرض البينالي فارضا حراسة حوله اقتطعت جزءا كبيرا من الممشى المحاذي. وكان أبراموفيتش أبرز أصحاب اليخوت الذين يفدون إلى البندقية خلال البينالي. ويأتي عمل ديلار هذا العام أيضا تعليقا على الظاهرة التي لا تزال موجودة وتثير الكثير من الجدل حول عالم المال وسيطرة المادية. الجناح الفرنسي الذي حاز على تقدير الكثيرين يبدو بعيد المنال، حيث امتد الصف أمامه لمسافة طويلة جدا ولم يعبأ المنتظرون بالأمطار المنهمرة. وبدا الأمر مماثلا ولكن بشكل أقل أمام الجناح الألماني، ولعل السبب في الازدحام هو مشاركة الفنان الصيني الشهير إي ويوي بأحد أعماله في الجناح.

جناح سويسرا يستقبلنا بأفعى حديدية ضخمة تطل برأسها خارج باب القاعة وبتتبعها في الداخل نرى أن الأفعى قد فرضت وجودها في جميع غرف الجناح، جسدها يتلوى ويمتد في جميع الغرف. العمل للفنان فالنتين كارون وهو مصنوع من الحديد المطروق ويبلغ طوله 80 مترا. الأفعى تستقبل الزوار عند الباب وتصاحبهم إلى داخل العرض تكسر بذلك حاجز الخوف لدى المتلقي. وحسب ما يذكر قيم العرض جيوفاني كارماين في مقدمته للعمل، فالأفعى تتحول من عمل نحتي إلى خط حديدي يتمدد في الفراغ يقدم الفنان من خلاله «حوارا أنيقا حول تعريف القطعة النحتية».

ومن الجناح السويسري نمضي إلى الجناح الروسي، حيث نفاجأ في القاعة الأولى بمشهد رجل يجلس على منصة عالية أقرب إلى السقف منها للأرض، نرى الرجل يتخذ مظهر المفكر فهو يسهم بنظره في الفضاء ثم يسند رأسه على يده ثم يتململ ونراه يلتقط بعض حبات الفول السوداني يقشرها وينثر القشر على الأرض أسفل منه ويأكل حباتها بتأن، نتركه خلفنا لنمضي إلى القاعة التالية حيث نرى جمعا من الناس يتحلقون حول فتحة في الأرض يطلون منها على الطابق الأرضي بالاقتراب منها نرى أن هناك مقاعد أرضية تسمح للزوار بالجلوس على ركبهم لمراقبة ما يحدث في الطابق السفلي حيث توجد كومة من العملات الذهبية ونرى نساء يحملن المظلات الشفافة يلتقطن بعضا من تلك العملات ويحملنها خارج القاعة، وليزيد الأمر غموضا نسمع صوتا من أعلى وبالنظر نرى ما يشبه «دش الحمام»، قطعة حديدية ضخمة تتساقط منها القطع النقدية على الكومة في الأسفل. الغرفة التالية يقف فيها رجل إلى جانب آلة ضخمة تبدو كآلة في مصنع تدور فيها سيور تحمل القطع المعدنية من الطالق الأسفل لتحمل في رأس «الدش» حتى تتساقط مرة أخرى. العملية مستمرة، كحركة آلات المصانع، الحركة دائمة، ويبدو أن النساء في الأسفل هن من يقمن بتسيير الآلة الضخمة، فهن يلتقطن العملات من الكومة ليعدن وضعها في الآلة لتستمر في عملها. تبدو العملية كلها معقدة ولكن الفنان الروسي فاديم زاكارف يشرح لنا فكرته من العمل، مشيرا إلى أنه استوحاها من أسطورة إغريقية حول داناي التي قام الملك إكريسيوس بسجنها خوفا من أسطورة تنبأت بمقتله على يد ابنها. ولكن داناي تحمل طفلا في محبسها عبر مطر ذهبي ألقاه عليها الإله الإغريقي زيوس. يقول الفنان إن المشاهد يشعر عبر مراقبته لعملية سقوط العملات أنه أصبح شاهدا على عملية التحويل المادي للأسطورة. ويشير إلى أن الغرفة السفلى المخصصة للنساء فقط لها مهمة «حفظ الطمأنينة والمعرفة والذاكرة». ويذكر زاكارف أن الغرفة السفلى مقصورة على زائرات المعرض، حيث يسمح لهن بالدخول لالتقاط العملات وبالتالي يصبحن جزءا مهما من تركيبة العمل. بعض التعليقات من الزوار رأت أن العمل مفتعل إلى حد ما وأنه يحاول بشكل مبالغ فيه إيصال فكرة معقدة، لكن ذلك لم يمنع عددا كبيرا منهم من الاصطفاف أمام الحجرة السفلى للمشاركة في العمل.

جناح دولة فنزويلا يبدأ برسم غرافيتي على جدار يمين المدخل، في الداخل ثلاث شاشات عرض ضخمة تقدم أفلاما حول فن الغرافيتي في شوارع فنزويلا. العرض باهر، مصاحب بموسيقى قوية ومعبرة، يبرز تأثير فن الغرافيتي في كراكاس ويعوض الزائر عن التجربة الحقيقية بشاشات العرض الضخمة التي تجعلنا نشعر أننا قد انتقلنا من فينيسيا إلى كراكاس.

في الجناح الهنغاري عمل بعنوان «أطلقت لكن لم تنفجر»، نرى شاشات تلفزيون متفرقة كل منها تحمل صورة قذيفة وجدت في شوارع المدن الهنغارية وهي من مخلفات الحرب العالمية الثانية. اللافت في العرض هو التنوع في أشكال وتصاميم القذائف، ويبدو أن مصمميها قد وضعوا في حسبانهم أن تكون جذابة الشكل رغم وظيفتها المدمرة. الفنان جولت أشتالوس يعلق بابتسامة ساخرة فيما يبدو أنه إشارة إلى اجتماع دول العالم في البندقية لتعرض فنونها: «نرى أن القذائف قد صنعت في دول مختلفة، هنا اجتماع دولي من نوع آخر»، ويضيف أن تلك القذائف كانت «أكثر إنسانية من من حاول إلقاءها علينا». يتمنى الفنان الحصول على جائزة البينالي هذا العالم لكنه يقرر أن يكون واقعيا في أحلامه، قائلا: «لا أعتقد أن تحصل هنغاريا على الجائزة هذا العام، فقد فزنا بها منذ عهد قريب». عمل أشتالوس يتميز بمعادلة بين العمق والبساطة، ويعرض لفكرة الدمار بشكل عام ودور البشرية فيه.