«قراموص».. قرية مصرية معجونة بعشق «ورق البردي» وفنونه

إنتاجها يعرض في أكبر المعارض الدولية

«قراموص» المصرية تجتذب السياح للتعرف على مراحل تصنيع البردي («الشرق الأوسط»)
TT

رغم ندرة مواردها وبدائية الحياة فيها، فإن سكان قرية «قراموص» التابعة لمحافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة) تمكنوا من وضعها على الخريطة السياحية، فالسائح الأجنبي يبحث عن اسمها منقوشا كعلامة جودة على أوراق البردي التي يحرص على شرائها قبل انتهاء رحلته لمصر لتكون ذكرى جميلة يحملها إلى بلاده.

وحين تتجول في أزقة وحارات هذه القرية تطالعك أعواد البردي في كل مكان، وكأنها حلقة وصل بين ماض تمثله حضارة الفراعنة لا تزال تدهش العالم وبين حاضر يفخر بهذا الإرث الحضاري والإنساني.

وتزداد دهشتك حين تعرف أن قرية «قراموص» تنفرد بأنها الأولى والوحيدة في العالم التي تخصص حتى اليوم أراضيها كاملة لزراعة نبات البردي، ذلك النبات الذي استخدمه المصريون منذ فجر التاريخ في صناعة الورق ليدونوا عليه علومهم وآدابهم ومعتقداتهم الدينية، ورغم ذلك فإن القرية تعد مجهولة لكثير من المصريين.

محمد عبد السلام (40 عاما) الذي يملك معملا لإنتاج أوراق البردي بالقرية، يقول: «تعرف قرية قراموص بأنها عاشقة للبردي، فهي تزرعه وتصنعه وترسمه وتلونه، ثم تبيعه إلى أنحاء العالم، فهناك الكثير من الأفواج السياحية تأتي لزيارة القرية لمشاهدة نبات البردي أثناء زراعته، أو التعرف على مراحل تصنيعه حتى يتحول لأوراق رسم عليها أجمل النقوش الفرعونية، فالقرية تعتبر متحفا فرعونيا مفتوحا يتجسد فيه تواصل الماضي مع الحاضر».

وعن مراحل تصنيع ورق البردي، يضيف: «تبدأ زراعة شتلات البردي في بداية شهر أبريل (نيسان) من كل عام وذلك في تربة طينية، ولأنه نبات مائي فهو يحتاج للري بصفة مستمرة، كما يجب أن تغطي المياه جزءا كبيرا من الشجيرات، التي يتراوح طولها بعد تمام النمو من 1.5 متر إلى مترين. وتتوفر شتلات البردي في المشاتل والجمعيات الزراعية بأسعار رخيصة لا تتعدى جنيها واحدا للشتلة الواحدة التي يمكن أن تعطي إنتاجا لأكثر من 10 سنوات. وشتلات البردي نوع واحد ينمو في شكل عيدان ويتم حصاده كل ستة أشهر، بعدها يتم تقسيم العود لعدة قياسات طبقا لطلب المعامل له، ثم يتم تقشيره بنزع القشرة الخضراء منه تمهيدا للبدء في مرحلة التصنيع».

يوضع البردي بعد ذلك في غلايات لمدة تتراوح من 5-6 ساعات، ثم يطرق ويدق عليه لفرده جيدا، وبعدها يقسم لشرائح رقيقة ليدخل في مرحلة «الرص»، أي ترتيب العيدان إلى جانب بعضها، ليتم تقسيم ورق من الكرتون المقوى على نفس مقاسات شرائح البردي، يوضع عليها قطعة من القماش الأبيض بنفس المقاس أيضا، وبعد ذلك يتم وضع صف بالطول وآخر بالعرض، ثم قطع أخرى من الكرتون والقماش، وهكذا حتى تتكون كمية كبيرة ثم يترك في الظل حتى يجف. لتأتي المرحلة الأخيرة والأهم وهي «العصر»، حيث يتم وضع الكرتون والقماش في مكبس والضغط عليه لإزالة بقايا المياه الموجودة به وتكرر هذه العملية عدة مرات ليخرج ورق البردي في صورته المعروفة. ويؤكد عبد السلام، الذي ورث معمله عن والده، أنه على الرغم من أن زراعة البردي وتصنيعه لا تحتاج إلى إمكانات كبيرة، فإن هذه المهنة شاقة وتتطلب التحلي بالصبر في جميع مراحل التصنيع، إلا أن أغلب أفراد القرية حتى الفتيات والنساء يؤثرونها عن غيرها من الأعمال، سواء في الزراعة أو التصنيع، كما تضم المراسم هواة ومحترفين للرسم على أوراق البردي من الفتيات ومنهم فنانات تشكيليات وحاصلات على شهادات جامعية من الكليات الفنية. وأغلب الرسومات والمناظر تكون مستوحاة من الحضارة الفرعونية، وهو ما يستهوي أغلب الزبائن.

ويتابع: «يعمل معظمنا بالقرية في زراعة وتصنيع أوراق البردي، فالأهالي يدركون أن البردي تراث من الحضارة المصرية القديمة وكان مقدسا لدى الفراعنة، كما أنهم اتخذوا من زهرة البردي شعارا لهم، واستخدموه كطعام في فترات الجفاف وصنعوا من سيقانه العديد من قطع الأثاث، ومن أليافه ورقا لكتابة وتدوين الأفكار والمعتقدات الدينية».

ويتابع بلغة الخبير: «هناك بعض البرديات التي كشفت عن كثير من الوصفات المتبعة قديما، خاصة في مجال الطب مثل برديات (إيبرس) و(كانون) و(هيرست) التي تتحدث عن الطب البديل والعمليات الجراحية التي أجريت آنذاك، بالإضافة إلى فوائد بعض الأغذية مثل عسل النحل والثوم. وقد استخدمت (اللغة الهيراطيقية) في كتابة معظم البرديات التي اكتشفت في الفيوم، وأسوان، والأقصر، وسقارة».

ويبين صاحب معمل البردي أنه على الرغم من تدهور وضع السياحة في مصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وتراجع المبيعات والطلبيات على البردي بشكل كبير، فإن عجلة الإنتاج لم تتوقف بالقرية والزوار ما زالوا يتوافدون لمشاهدة إعجاز الفراعنة في تصنيع هذا النبات، الذي يحمل عبق الحضارة المصرية القديمة.. فالقرية تواجه جميع الأزمات الاقتصادية بالعمل والمثابرة وإتقان العمل والتجديد في ما تنتجه، «فكل يوم لدينا جديد نبهر به العالم، فلوحات البردي تعرض في جميع المناطق التي يرتادها السياح وأيضا المعارض الدولية».

وهو ما تلخصه محسنة، شابة في العشرينات تعمل في صناعة ورق البردي، قائلة: «صناعة البردي فن، وتحتاج لمهارة خاصة ولصبر، وأنا أحبها، وسعيدة بأنها مصدر رزقي».. وتتمنى محسنة ألا تجيد فقط القراءة والكتابة، وإنما معرفة اللغة الهيروغليفية، لغة الفراعنة، على حد قولها، لتعرف أسرار عشقهم لورق البردي.-