الفنان «نمر».. لوحة سيراميك أمام جمهور القاهرة

موهبته تفجرت بعد سن الستين

الفنان محمد نمر
TT

يحتضن الفنان محمد نمر طبقا من السيراميك الأبيض في حميمية، ويفتح صندوق ألوانه وبفرشاته يحوله إلى لوحة فنية تمتلئ بالطيور والنباتات والزخارف البراقة، في مشهد حي أمام جمهور وسط القاهرة، الذي سرعان ما تتناثر منه كلمات الإعجاب، ويثني على موهبته التي حباه بها الله، وتفجرت بعد مشوار طويل مع الحياة.

لم يبدأ نمر (65 عاما) في الرسم على الخزف إلا بعد أن بلغ عمره الستين مع وصوله لسن التقاعد من عمله محاسبا، ورغم أن موهبته «الدفينة» لازمته منذ الصغر فإنه لم يترجمها في أي أعمال فنية إلا في الفترة الأخيرة. يقول: «منذ صغري أحب الرسم، وفي المرحلة الثانوية تعلمت الأشغال الفنية بالقماش والخامات الأخرى، وتوقف الأمر مع اتجاهي إلى العمل في مجال المحاسبة البعيد تماما عن الفن، وكان وقتي كله مشغولا، ولم أمارس الرسم طيلة 40 عاما».

ومع وصول الرجل إلى سن التقاعد، شعر بفراغ كبير في حياته، فقرر أن يشغل وقته بالعودة إلى ممارسة هوايته المحببة التي لم يتوقف عشقها في قلبه. يقول: «عدت إلى ممارسة الرسم، وكان ذلك على القماش، حيث أرسم عليه آيات قرآنية وزخرفة، ثم نصحني أحد معارفي بالرسم على بلاط السيراميك لبيان الزخرفة بشكل أوضح، وهو ما استجبت له، فقمت بالرسم على قطع البلاط، وأعجب بالرسم كل من حولي».

يتابع: «لتطوير أعمالي أحضرت كتبا تتحدث عن الزخرفة وتاريخها وتفاصيلها ومكوناتها وأساسياتها، كما زرت متاحف كثيرة إسلامية وقبطية لأدرس الزخارف على الطبيعة. ومن هنا استهوتني فكرة الرسم على الأطباق دائرية الشكل لما بها من جماليات، فقمت باستبدال قطع البلاط بها».

بدأ نمر ينقل بعض الأعمال من التراث، ثم الاقتباس مع التطوير، ثم كانت الخطوة التالية بعدم الاقتصار على التراث، حيث بدأ بالمزج بينه وبين تصوراته الشخصية وإضفاء روحه الخاصة، مما عمل على تطوير رسومات التي تزين الأطباق الدائرية.

ما يميز نمر هو أن أعماله تصنف على أنها «شغل يدوي» ليس مطبوعا كمنتجات المصانع المتخصصة. يستكمل: «رسوماتي قطعة واحدة، فأنا لم أكرر قطعة فنية حتى الآن حتى وإن طلبت مني، كما أنني لا أحرق المنتج في الأفران بعد الانتهاء منه أو استعمل معه الأكاسيد، وذلك حتى تكون لها قيمة لمن يحصلون عليها، سواء من المصريين أو السائحين الأجانب والعرب، فتكون لديهم بما يشبه تحفة فنية أو قطعة أثرية نادرة. كما أنني أجعلهم يلمسون القطعة لكي يدركوا قيمتها على العكس من منتجات المصانع التي تنتج مئات القطع بنفس الشكل، التي رفضت العمل بها لأن اتجاهي فني في المقام الأول وليس تجاريا».

تحولت الهواية إلى حرفة لدى الرجل مع اتجاهه للاشتراك في إحدى أسواق المنتجات اليدوية الذي تقيمه ساقية الصاوي الثقافية بالقاهرة. يقول: «اشتركت بمنتجاتي ولم أبع قطعة واحدة، لكنني لم أيأس وكررت المحاولة الشهر التالي وبدأت في بيع قطع بسيطة، زادت مع الوقت. كما تعرفت على بعض الفنانين والعارضين الذين أعطوني دفعة للأمام، حيث بدأت أتجه لعرض منتجاتي في البيوت الأثرية والمكتبات والاشتراك في بعض المهرجانات التي تهتم بالحرف اليدوية، التي أقوم فيها بالرسم الحي أمام الجمهور، الذين يتعرفون على أسلوبي في الرسم بشكل مباشر وهو ما يستهويهم».

في الوقت الحالي يعرض الفنان نمر منتجاته بشكل ثابت في غاليري «المطبخ» بمنطقة وسط البلد بالعاصمة المصرية مع عدد من أصحاب المواهب والحرف اليدوية، التي يقوم أيضا فيها بالرسم الحي للزوار، ففي نهاية نهار كل يوم يبدأ بالجلوس ويفتح صندوق عدته الخشبي الذي يسميه «دكان الألوان» الذي ينتقل معه أينما حل، حيث يمسك فرشاته ويغمسها في ألوان سيراميك، ويهم في الرسم على الطبق الذي يحتضنه ولا يضعه أمامه، حيث يفضل ذلك حتى يشعر بالقرب من لوحته التي ينفذها.

يقول وقد أطرق يفكر في النقطة التي يبدأ منها الرسم: «أوقات كثيرة أبدأ بفكرة معينة وأثناء العمل تتغير الفكرة تماما أو تتطور، وأوقات أخرى أرسم على الورق في البداية ثم أهم بتنفيذ ما رسمت خاصة مع الزخارف التي تحتاج إلى دقة».

يتطلب الأمر في المتوسط 6 أو 7 ساعات من العمل لكي ينتهي نمر من لوحته الفنية، أو تأخذ أياما طويلة حسب الدقة في الزخارف وألوانها، وهو ما يتطلب التحلي بالصبر الطويل، وهي الصفة التي يراها نمر من أهم المقومات التي يجب أن يتسم بها فنان الرسم على السيراميك ويرى أنها توافقت مع السن الذي بدأ فيه حرفته، إلى جانب الحس الفني العالي وعدم ارتعاش اليد، خاصة مع استخدام الفرشاة الرفيعة.

ويضيف نمر: «إحساس الجمهور بفني يجعلني أستمر»، مشيرا إلى أن كلمات الإشادة من جانبهم مثل «الله ينور» أو «تسلم يداك» تفرق معه كثيرا، وتجعله مصمما على تطوير أعماله، فلا تقتصر حاليا أعماله على السيراميك، حيث تمتد موهبته لتضفي لمسات فنية على خامات الزجاج البلدي وعلى تشكيلات عجينة الورق.

ورغم تعدد خامات لا يعتبر نفسه محترفا، بل يرى أنه مجرد هاوٍ، يقول: «كل يوم أتعلم الجديد، فبصفة مستمرة أعرض أعمالي على فنانين تشكيليين، وأستمع لنصائحهم التي كان أبرزها ألا أقتصر فقط على التراث، لذا فقد بدأ مؤخرا الاتجاه نحو الأعمال التشكيلية كرسم بيوت من الواحات المصرية على سبيل المثال، ورغم أنها كانت تجربة كنت خائفا منها فإنها أعجبت السائحين. وحاليا أعمل على إعداد رسومات جديدة بمثل هذه العناصر الجديدة لتكون بمثابة لوحات تشكيلية».

يختتم الفنان الستيني حديثه لافتا إلى أنه لا يندم على تأخر انطلاق موهبته الدفينة، بل يشعر بالبهجة «لأن موهبتي ملأت فراغا كبيرا للغاية في حياتي»، مبينا أن هذا الشعور سيزيد إذا حقق أمنيته بأن يعلم فنه لمجموعة من الشباب حتى لا تندثر المهنة.