هينر سليم: أريد من كل ثقافة أن تتعلم من الأخرى

فيلمه الجديد يتحدث عن وطن يبنى من الصفر

من فيلم «ماي سويت ببرلاند»
TT

في مسابقة «نظرة ما» الأخيرة في مهرجان «كان» السينمائي، قدّم المخرج الكردي هينر سليم فيلمه الجديد «ماي سويت ببرلاند». العنوان مأخوذ عن اسم حانة في البلدة التي تقع فيها الأحداث. والقصّة تتناول حكاية عسكري كردي يتم إرساله إلى بلدة صغيرة تقع على الحدود مع تركيا وإيران كرئيس قوّة البوليس. لكن ليس هناك من قوة فعلية، بل مجرد مساعد له يمضي بطل الفيلم، واسمه باران (يؤدّيه قرقماز أرسلان)، وقتا طويلا قبل أن يتأكد أنه يستطيع الثقة به.

في الوقت ذاته، تصل إلى البلدة عينها امرأة شابة، اسمها غوفند (غولدشفته فرحاني) ترغب في ممارسة عملها كمعلّمة أطفال. تدرك حاجة هذه البلدة الصغيرة إليها وهي مستعدة للبذل في هذا السبيل. سريعا ما يقع حب النظرة الأولى ويستمر صامتا بين الاثنين. لكن الفيلم ليس عاطفيا ولا يدور، تحديدا عن هذا الجانب من الحياة، بل عن صعوبة العيش في مثل ذلك المكان النائي والمعزول عن التطوّر، وعن عصابة ملتزمة بقرار سيّدها حاكم البلدة، وأخرى من النساء اللواتي يحاربن ضد الجيش التركي ويقمن بالتسلسل عبر الحدود. ومن هذا كله هو فيلم عن مجتمع يعاني مما تعانيه مجتمعات أكبر يراها المخرج بحاجة جميعا إلى التحرر من تبعية التقاليد.

«ماي سويت ببرلاند» كان يحتاج إلى سيناريو أفضل خال من التوقعات المسبقة، لكن شغل المخرج على العناصر البصرية من تصوير وتمثيل واستفادة من الأجواء والطقوس الاجتماعية كما الطبيعية لا يمكن تجاهله. وهو تاسع فيلم يخرجه هينر الذي غالبا ما اشتغل على موضوع الهوية والتقاليد الكردية التي عايشها. فهو وُلد في المنطقة العراقية من كردستان قبل 48 سنة وعبّر عن قوميّته وناقش مسائلها (عادة بقدر كبير من المرح والسخرية الحذرة) في خمسة من أفلامه على الأقل. أنجز نجاحه الإعلامي والنقدي الأول عندما أخرج «فودكا ليمون»، وهو فيلم كوميدي اختار منطقة أرمينية في فترة الحكم السوفياتي، مكانا لها. فيلمه الأخير «إذا مت سأقتلك» حمل أيضا سخرية لاذعة ودارت أحداثه في باريس حول فتاة كردية (غولدشفته فرحاني) تصل إلى العاصمة الفرنسية لملاقاة خطيبها الذي كان فارق الحياة قبل وصولها. يتبعها والده الذي يريد تزويجها الآن بابنه الآخر.

في «ماي سويت ببرلاند» عودة إلى المنطقة الكردستانية نفسها. هو أقرب إلى العودة إلى الجذور، مختارا بلدة صغيرة تعبر عن الأصل كما لو أنها وُلدت للتو من رحم الحياة.

* هل يمكن النظر إلى فيلمك هذا على أساس أن المرأة تمثل الحرية وبطله باران يمثل القانون؟

- صحيح جدا ولو أنني لم أفكر بهذه الرمزية. في شكل عام لا أحب الرمزيات كثيرا لكن ما قلته صحيح على أساس أن المرأة في نهاية الأمر تعاني من التقاليد الاجتماعية التي ترزح تحتها. من ناحيته يمثل … القانون ونحن بحاجة فعلا إلى الحرّية وإلى القانون.

* في مشهد قرب النهاية تصرخ غوفند بأخيها وجماعته من المتشددين بأنهم يمارسون ما كان يمارسه صدّام حسين. تقول شيئا مثل «تلعنون نظام صدام حسين وتمارسون ما كان يمارسه» هل هذا هو نوع من تفضيل النظام السابق؟

- لا. مطلقا. ليس هذا المقصود. أنا لست ساذجا لدرجة أن تفضيل النظام السابق الذي تسبب في مآسي كثيرين، أكراد وغير أكراد. وأنا أعتقد أنني أذكى من أن أقارن الأمور على هذا النحو. ما كنت أقصده هو أن العقلية هي ذاتها وهي تحتاج لأن تتطوّر لأنها عقلية تؤدي إلى الفاشية التي عانينا منها وعلينا نحن كمجتمعات أن نتحمل المسؤولية كاملة فيما نمارسه. الفاشية ضد الديمقراطية والتي تنتمي إلى ثقافة غائبة. هذه الثقافة يمكن أن تحل الكثير من الأمور المستعصية. ممكن لها أن تسقط المواصفات الكبيرة التي نحب أن نطلقها على أنفسنا وغالبا ما نصدّقها وهي ليست صحيحة. أنا أتكلم عن نفسي. هذا هو رأيي. أعتقد أننا نحن المسؤولين عما يقع لنا بسبب نظمنا الوحشية. يقولون إنه النظام السابق.. صحيح، لكن أين دورنا نحن؟ أريد أن نكون مسؤولين عن أعمالنا.

* جماليا، هناك استفادة كبيرة من التصوير الخارجي. طبيعة قاسية وفي نفس الوقت خلابة..

- نعم. عادة ما أستيقظ كل صباح وأفكر فيما سأقوم بتصويره.

* لا تضع سيناريو تنفيذيا (ديكوباج)؟

- لا. لا أعمل على هذا النحو. أستيقظ قبل الطاقم وأتوجه إلى مكان التصوير وأقسّمه في بالي. أريد أن أرى بنفسي المكان. أن أشمه وأتحسسه وأبني قراراتي فيه عوض أن أكتبها سلفا كمقررات ما علي سوي تصويرها. أريد أن أرى الضوء وأستلهم منه ومن المكان. أحب الأماكن المفتوحة.

* هذا على عكس «باريس فوق السطح» مثلا.

- طبعا. في باريس ليست هناك مساحات مفتوحة. هناك جدران وإذا ما كان هناك مشهد خارجي فهو ينتهي على بعد 1000 متر لأن هناك جدارا أو شارعا أو مبنى ما. حتى وإن خرجت إلى خارج المدن الفرنسية وصوّرت في الطبيعة فإن الإحساس يختلف. في كردستان المساحات حرّة والطبيعة عذراء.

* هل كان عليك التعامل مع الجو أو سطوع الشمس في تلك المناطق من العالم؟

- صوّرت في نوفمبر (تشرين الثاني) وانتهيت من التصوير في أبريل (نيسان) حيث الشمس معتدلة والضوء ليس ساطعا أو قويا كما الحال في الصيف. وطالما أنك تتحدّث في التفاصيل الفنية فلا بد القول إنني صوّرت الفيلم حسب تسلسل المشاهد.

* هل توافق على أن هناك بعض يلماز غونيه وبعض الوسترن أيضا؟

- أحب أفلام الوسترن وكان في ذهني أن أضع في الفيلم مثل هذا الإحساس.

* هناك الكثير منه، الأحداث التي تقع في بلدة صغيرة، القبعة التي يرتديها البطل. بعض اللقطات التقديمية له.. جياد.. طبيعة..

- صحيح. أعتقد أن الأكراد وتاريخ السنوات العشر الأخيرة يولدان هذا التماثل بين هذه المنطقة من العالم والغرب الأميركي. مشكلاتنا في إقليم كردستان مشكلات وطن يُبنى من الصفر. أولا يجب أن يكون هناك قانون. هم باران هو أن يبني وطنا سليما.

* هل تشاهد الكثير من الأفلام؟ أو هل تستلهم منها أفكارا؟

- لا أقول إنني «سينيفيل» أو إنني متأثر بالنظريات. أنا أريد أن أتحرر من النظريات ومن المدارس. لا أريد أن أكون تحت تأثير أي شيء وفي الوقت نفسه أنا تحت تأثير كل شيء. أستلهم من كل ما أراه بما فيه الفن التشكيلي.

* في أفلامك عموما هناك نزعة حول العواطف الإنسانية مشبعة بشخصيات تبدو كما لو كانت غريبة عن العصر الحاضر الذي تعيش فيه. أين تقف أفلامك من الهوية الثقافية في مواجهة التكنولوجيا؟

- أريد كل شيء. أريد الشجر وأريد الإنترنت. أريد الثقافة الكردية والثقافة العربية. أريد كل ثقافة أن تتعلم من الأخرى. أريد المستقبل المتعدد. لا أرى أن هناك دما نظيفا. أنا مع الانفتاح لأن الانفتاح هو مستقبل البشر أينما كانوا. قبل سنوات ليست بعيدة كانت الولايات المتحدة بلدا جديدا. أنظر إلى ما حققه الأميركيون اليوم وبسرعة رهيبة ثقافيا وموسيقيا واقتصاديا.. أميركا هي قطب. لماذا؟ لأن هناك مواطنين جاءوا من كل مكان من العالم وعملوا معا على التأسيس. هذه التعددية المختلفة هي ما منح البلاد قوّة واندفاع.

* بعد أفلامك التسعة إلى الآن، هل بات إيجاد التمويل سهلا عليك؟

- صناعة الفيلم هي مخاطرة كبيرة في كل الأحوال ومع كل المخرجين خصوصا المخرجين المؤلّفين. أعتقد أن أفلامي السابقة تساعدني اليوم على التمتع بالثقة بي كمخرج وباختياراتي، لكن الإنتاج في العموم مسألة صعبة وتحتاج إلى مثابرة ووقت طويل.

* ما جديدك المقبل؟

- أفكر في مشروعين أحدهما تقع أحداثه في دولة أوروبية كل ما يسرده هو أوروبي بحت لا علاقة له بمنطقتنا. والآخر هو أنني أحب أن أصنع فيلما يدور حول ما يمر به الشرق الأوسط من نزاعات في العشرين سنة الأخيرة وإلى اليوم.