الممثل جيريمي آيرونز لـ «الشرق الأوسط»: ليس من بين شخصياتي من هي أنا

بعيدا عن العمل يميل إلى حياة الصعلكة والتشرد

مع ميلاني لوران في «قطار ليلي إلى لشبونة» (2013)
TT

بادر جيريمي آيرونز بطرح السؤال حول إذا ما كنت شاهدت مسرحية «الحادثة المثيرة للفضول لكلب في الليل»؟ ثم أضاف قبل أن يطلع على الجواب: «إنها في الأساس كتاب رائع لكنها مسرحية أكثر روعة. تفوق المعتاد»، وهو يمدحها ليس لأنه هو فيها (ولو أن شقيقة زوجته تمثّل دورا فيها) بل إنه حضرها الليلة السابقة لهذا اللقاء وهو، من ناحيته لم يكن يعلم أنها ربحت جائزة «أوليفييه» (نسبة للممثل البريطاني لورنس أوليفييه): «صحيح؟ لم أكن أعلم. أكاد لا أصدّق».

في الحقيقة لم تربح المسرحية التي أخرجتها ماريان إليوت جائزة أوليفييه واحدة بل ربحت سبع جوائز بما فيها جائزة أفضل مخرج، ولو أن شقيقة زوجته، نِيام كوزاك، خرجت من دون واحدة من هذه الجوائز.

لكن الحديث بالطبع ليس عن مسرحية شاهدها بل عن أفلام وأعمال تلفزيونية قام هو بتمثيلها. جيريمي آيرونز قضى نحو أربعين سنة من حياته المهنية فوق المسرح واثنين وثلاثين سنة منها أمام الكاميرا لكنه لم يحصر نفسه مطلقا في نوع واحد لاعبا أدوارا عدّة بألوان أكثر عددا. يتمتّع بصوت منفرد تميّزه من دون أن ترى الممثل أمامك، وبقدرة على التحكّم في أدائه الصوتي لدرجة تلاحم رائع بينه وبين الشخصية. في أدوار الخير كما في أدوار الشر يستطيع جيريمي النفاذ بسلاحيه هذين (الصوت والصورة) فإذا به شخصية رقيقة وشاعرة في «امرأة الضابط الفرنسي» (1981) و«قطار ليلي إلى لشبونة» (2013) وشخصية موحشة وقاسية كما في «زنزانة وتنين» (2000) و«داي هارد مع انتقام» (1995) ثم كل الدرجات بين الجانبين.

* إلى أي حد خبرتك المسرحية تلعب دورا في إلهامك الطريقة التي تمثّل فيها للسينما؟

- ليس هناك فرق فعلي. طبعا تتكلم عن فنين مختلفين في أوجه كثيرة، المسرح والسينما، لكن حينما تقوم بلعب دورك في أي منهما فإن الصادر منك هو نفسه لا يتغيّر فيه سوى النص واختلاف العمل وشروطه.. الكاميرا غير خشبة المسرح طبعا.. وهكذا. لكن التمثيل واحد.

* لكن هناك من يعتبر أن الخبرة المسرحية للممثل السينمائي أساسية إذ تجعل منه ممثلا أفضل على الشاشة..

- ليس شرطا. طبعا الخبرة المسرحية هي بالنسبة للممثل السينمائي إضافة إيجابية، لكنها ليست شرطا للتمثيل وإلا لما كان هناك ممثلون سينمائيون جيّدون لم يقفوا على خشبة المسرح مطلقا أو لم يقفوا على خشبة المسرح إلا من بعد قيامهم بالتمثيل أمام الكاميرا.

* قرأت لك أنك لا ترغب في أن تصبح مشهورا أكثر مما أنت عليه اليوم. في أي مرحلة من مراحل عملك أعربت عن ذلك ولماذا؟

- كان ذلك حين بلغت الخمسين. هذا عجيب لأنك تفترض وقد وصلت إلى سن الأربعين بأنه لن يصادفك عمل بالغ الإثارة بعد ذلك السن. فتقول شيئا مما قلته.. أو هكذا أعتقد. في تلك الحالة يصبح ظهورك هو نوع من الروتين تقوم به لأنك ممثل ولا تتوقّع من مهنتك سوى الاستمرار على هذا الوضع. لكن فجأة تجد نفسك أمام عمل يبدد ذلك الافتراض. لقد قلت ذلك وكنت على خطأ.. هناك حياة بعد الأربعين (يضحك).

* هناك شهرة كبيرة أيضا.. كونك متخصصا بأدوار معظمها في أفلام جادّة قد لا يجعلك الممثل الذي يُعرف بدور واحد أكثر من سواه.

- ربما هذا صحيح، لكن هناك استثناء. عندما أذهب إلى الهند دائما ما ينادونني «داي هارد» (نسبة إلى الجزء الثاني من الفيلم الذي قاد بطولته بروس ويليس) هذا هو الفيلم الذي يذكرونه لي (يضحك). لكن أتعلم شيئا، بالنسبة لي الشاشة الصغيرة هي التي تحقق قدرا من الشهرة بالنسبة لبعض الممثلين الراغبين في النوعية أكثر من التعددية. هذا ما وجدته مثلا حين بدأت تمثيل دوري في «بورجيا».

* عائلة بورجيا والتاريخ يلعب آيرونز دور رودريغو بورجيا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر عندما كان الصراع بين الممالك والإمبراطوريات الأوروبية عنيفا والرغبة في السيطرة على الفاتيكان، ثم رغبة الفاتيكان في النفوذ السياسي، مشهودة. النص التلفزيوني وضعه توم فونتانا، لكن الأحداث تاريخية وليست خيالية وقعت في «عصر النهضة» عندما شهدت الحياة السياسية دورا متماديا لعائلة بورجيا وصل إلى ذروته عندما حكم ألفونس دي بورجيا الفاتيكان باسم البابا كاليكستوس الثالث (1455 إلى 1458) ليخلفه رودريغو، ما بين 1492 و1503 باسم «ألكسندر الخامس». جيريمي آيرونز يبدو في ذلك المسلسل كما لو أن الدور صُنع له. هو بالتأكيد دور مكتوب بدقّة..

* الحلقة التي شاهدتها مؤخرا من المسلسل تعد مثالا لما تحتويه من أحداث تتعلق بالخلافات والمؤامرات ليس بين عائلة بورجيا وسواها فقط، بل داخلها أيضا. وما يشدّني أن الموضوع الأساس المطروح عبرها لا يختلف عما نعيشه اليوم، مثل صراع النفوذ ودور السياسة والدين.. هل توافق على ذلك؟

- نعم. أساسا شخصيّة رودريغو بورجيا هي شخصية مشينة في عرف اليوم. من ناحية علينا أن نذكر أن الحياة في القرن السادس عشر كانت مختلفة جدّا عنها في هذه الأيام في بعض النواحي لكنها شبيهة بالأوضاع السياسية المعقّدة السائدة حول العالم هذه الأيام. هذا صحيح. في تلك الأنحاء التي نسمّيها إيطاليا اليوم كانت هناك عدّة ولايات ووضع متفجّر. إيطاليا كانت أقرب إلى أفغانستان حينها. كان هناك صراعا إيطاليا - فرنسيا على الفاتيكان الذي كان مشادا في منطقة أفينيون الفرنسية. المادة كُتبت بعد سنوات عدّة على رحيل عائلة بورجيا ورحيل البابا ألكسندر الخامس وحقيقة أن العائلة كانت تعيش في كتمان وبعيدا عن الانخراط الاجتماعي أبقاها معزولة عن التداول وتداخل الأساطير. لذلك بالنسبة لي هناك حريّة تجسيد للدور تختلف عما لو كانت الشخصية معروفة.

يتحدّث جيريمي آيرونز مطوّلا عن تاريخ العائلة وتاريخ الفترة ويضيف:

«جزء مما أعرفه كان علي أن أتعلّمه حديثا عندما بدأت تمثيل هذا المسلسل. الجزء الأكثر عمومية أعرفه لأني أحب التاريخ».

* كيف تعيش شخصياتك؟ هل يمكن أن يكون هناك تشابه بينك وبين الدور الذي تؤديه؟

- (يضحك طويلا) أتمنّى أن لا يكون هناك أي تشابه.

* إلى حد معيّن تبدو عائلة بورجيا كما لو كانت تعيش في إطار حديث.. شيء مثل عائلات مسلسل «دالاس» مثلا..

- هذا مثير للاهتمام لكني لا أعتقد أنه صحيح. بالنسبة إلي أحب أن أختلف كثيرا عن شخصياتي جميعا. ليس منها ما هو أنا. أحب أن أكون طبيعيا وأعتقد أنه من المهم جدّا للممثل أن يكون طبيعيا وأن ينفصل عن العالم الذي يكوّن مهنته وينخرط في الواقع. أن يبقي قدمه على الأرض. إنه من السهل أن يجذبك التمثيل لابتكار شخصية مختلفة عما كنت عليه فتمنح نفسك أهمية أكثر مما تستحق.

* من هو الممثل إذن؟

- نحن رواة قصص (Storytellers) ونحن صعالكة ومتشرّدون بعيدا عن عملنا. أعيش كمتشرد وصعلوك على أي حال. أركب جيادي وألتحم مع من ألتقي بهم وأعايشهم. أختفي فيما أحب أن أقوم به. أغني وأعزف غيتاري وأسعد كثيرا حين أخرج من بؤرة الرؤية وأغيب عن الكاميرا. بالنسبة لي إذن، شخصية ألكسندر هي كابوس رازح إذا ما انطلت علي بعد مغادرتي الدور. لا يمكن معايشة الشخصية التي تمثّلها إلا حين العمل. لا شيء أسوأ من أن تبقى معك بعد ذلك. ذلك قبل ثماني سنوات، وكما ذكرت أنت، قلت إنني لا أريد أن أكون أكثر شهرة لأنني أريد أن أحافظ على ما أنا عليه. تنظر إلى بعض الممثلين الجدد وتشعر بأن الحياة باتت جريمة. لا يستطيعون الخروج من منازلهم أو الانخراط في حياة اجتماعية عادية. ذلك أمر بائس.

* حدث ذات ليلة قطار جيريمي آيرونز من الذين لعبوا شكسبير على المسرح، كما لعبوا شخصيات حديثة كتلك التي يكتبها هارولد بنتر. نال جائزة مسرحية «توني» الأميركية عن دوره في «الشيء الصحيح» التي أخرجها مايك نيكولز عن كتابة لتوم ستوبارد وشاركته بطولتها غلن كلوز التي لعبت أمامه في «منزل الأرواح».

سينمائيا مثل بصوته في «الملك الأسد» (1994) مانحا الفيلم تلك القوّة المقنعة في دور والد الشخصية الأساسية. وظهر في شخصية الأب أراميس في رواية ألكسندر دوما «الرجل في القناع الحديدي» (1998) وورد «داي هارد مع انتقام» (1995) في منتصف الفترة التي كان يختار فيها أدوارا أكثر جدّية. بعده قدّم شخصية الكاتب ف. سكوت فتيزجرالد في فيلم تلفزيوني أميركي عنوانه «النداء الأخير» (2002) وبعده مباشرة تعامل مع المخرج الإيطالي الفذ (والمنسي عادة) فرانكو زيفيرللي عندما اختار ذاك شخصية مغنية الأوبرا ماريا كالاس (لاعبا دور صديقها) في فيلم «كالاس للأبد». في عام 2004 شارك آل باتشينو بطولة «تاجر البندقية» ثم انتقل إلى إدارة المخرج المجري استيفان شابو في «أن تكوني جوليا» في الفترة ذاتها التي لعب فيها دورا رئيسيا في «مملكة الجنة» لريدلي سكوت. والدور التاريخي كان من نصيبه مرّة أخرى حين لعب في مسلسل تلفزيوني بعنوان «إليزابيث الأولى» قبل عودته إلى المسرحين البريطاني والأميركي في بضعة أعمال أهمها Never So Good أمام جوان ألن.

في العام الماضي، وخلال مهرجان برلين السينمائي، شوهد في بطولة فيلم جيد، وإن لم يثر إعجاب النقاد الغربيين، هو «قطار ليلي إلى لشبونة» ومع الموافقة على سلبيات في العمل، إلا أن العمل بكليّته ساحر وأفضل ما فيه تشخيص جيريمي آيرونز.

* شاهدت لك قبل حين «آخر قطار من لشبونة»..

- (مقاطعا) «قطار ليلي إلى لشبونة».

* أعتذر. «قطار ليلي إلى لشبونة» الذي لم يوزّع بعد تجاريا. أود لو تقيّم هذا الفيلم بنفسك وتخبرني كيف تشعر حياله.

- كنت عملت مع المخرج بيلي أوغست في فيلم سابق هو «منزل الأرواح» الذي كان اقتباسا لكتاب إيزابيل أللندي وكان فيلما لم يحقق النجاح الذي أعتقد أنه يستحقه. من الغريب أنني شاهدت الفيلم مرّة ثانية قبل نحو سنة ونصف بينما كنت أنظم مكتبتي من الفيديو لكي أنقلها على أسطوانات. إنه فيلم رائع. فوق العادة. يذكّرك كم تراجعت صناعة السينما منذ ذلك الحين (تم إنتاج الفيلم قبل عشرين سنة).

* كان فيلما أراد أوغست تحقيقه في ثلاث ساعات..

- صحيح. لكن المنتج هارفي واينستين أصر على قطعه إلى ساعة ونصف وعندما تقوم بمثل هذا الفعل فإن الكثير مما يتشكّل منه الفيلم يتبدد بما في ذلك ما تقوم عليه الشخصية التي لعبتها ميريل ستريب. حين عرض عليه بيلي أوغست بطولة الفيلم الجديد أحببت المشروع وصوّرناه في لشبونة وجوارها.

* ما الذي جذبك إليه؟

- الرواية فيها بعض الفلسفة وفيها بعض الحس الشعري وبعض المواقف والمفاهيم تجاه الحياة وكلها مسائل من الصعب ترجمتها إلى صور. لكن بيلي وضع سيناريو جيّدا وهو مخرج جيّد جدّا يتعامل دوما والمشاعر الإنسانية الرقيقة. قصص من تلك الرقيقة والمشاغل الشفافة. لا يحب تحقيق أفلام من تلك الكبيرة التي تتحدّث عن كل شيء ما عدا الإنسان نفسه. لعبت أنا شخصية سويسري بينما باقي الممثلين لعبوا شخصيات برتغالية وكانوا نخبة مهمّة: برونو غانز وشارلوت رامبلينغ وتوم كورتني.. بعض الأفضل.

* لم يعرض الفيلم تجاريا حتى الآن..

- هذا صحيح. سيفتتح قريبا في ألمانيا ثم في سويسرا وفي مدن قليلة.. هذا نوع من الأفلام التي تتطلب معالجة بطيئة وحذرة. سنعرضه في أميركا لكن التوزيع هناك لن يكون واسعا لأنه ليس من تلك الأفلام التي ستستقطب جمهورا كبيرا.

* لكن ما هو رأيك الخاص به؟

- لا أستطيع أن أحكم حقيقة. أنا متّصل به أعتقد أن قوّة بيلي أوغست، وقوانا جميعا، هي نقاط ضعفنا. هناك حكايتان في الحقيقة، واحدة تقع في السبعينات خلال الحكم الديكتاتوري للبرتغال والأخرى تقع اليوم وأخشى أن لا يكون هناك توتر كاف للانتقال بين المرحلتين.

* ما رأيك بابنك ماكس وهو في مطلع حياته المهنية كما كان حالك سابقا؟

- ماكس يذهلني. أذكر عندما شاهدته لأول مرّة وهو يمثل. كانت مسرحية مدرسية قام بها طلاب وطالبات بين سن الثامنة وسن الثالثة عشرة لجمع تبرّعات إثر وفاة طالب آخر. فجأة يدخل هذا الولد بظهره للجمهور حاملا غيتارا ويمر أمامنا وأتساءل «ومن يكون هذا؟» ثم يستدير فإذا به ماكس (يضحك)... كان شخصية غارقة في شخصية أخرى على عكس ما يتوقّعه المرء منه في سنّه. كان كيث رتشاردس (عازف الغيتار في فريق «ذا رولينغ ستونز») أو ما شابه. وهو إلى اليوم يستطيع أن يُضيّع نفسه داخل الشخصيات الأخرى التي يؤديها. أقلق عليه لأنه الآن بات شابّا مطلوبا ولا أعرف كيف ينظر إلى الفرص المتوالية أمامه وكيف سيتصرّف حيالها. لقد ظهر حتى الآن في مسرحيّتين وثلاثة مسلسلات تلفزيونية وفي ثلاثة أفلام وفي سبيل تمثيل فيلم رابع. أقلق حين أفكّر أن العمل الفني اليوم أصعب من ذي قبل. إنه ممثل جيّد وفخور جدّا كذلك زوجتي. لا أدري من ألوم على توجهه صوب التمثيل أنا أم هي.. أعتقد هي (يضحك).