سوق «البعارين» في الرياض.. البوصلة السنوية لرحالة الإبل الجدد

مهنة متوارثة من جيل لآخر.. وأبطالها يقطعون مئات الكيلومترات بحثا عن الكلأ

جانب من سوق «البعارين» الذي يستقطب، خلال فترة الصيف أعدادا كبيرة من تجار الجمال التي تجد رواجا كبيرا خلال هذه الفترة
TT

عندما تشتد حرارة الشمس وتنجلي آثار فصل الربيع، تدنو عقارب الساعة لدى رحالة جدد يتجولون في أرجاء الجزيرة العربية طوال الفصل الأخضر، يتنقلون بين المراعي والمراتع الشاسعة المتناثرة في شمال وشرق السعودية، نحو موعد التلاقي السنوي في سوق الجمال المسمى محليا سوق «البعارين» الذي يستقطب، خلال فترة الصيف بالتحديد، أعدادا كبيرة من تجار الجمال التي تشتهر باسم «الحاشي»، التي تجد رواجا كبيرا خلال هذه الفترة، باعتبارها خيارا أساسيا على موائد الأفراح السعودية التي تزدهر هذه الأيام. ويرجع ذلك إلى كبر حجمها ورخص سعرها ولذة طعمها، خصوصا في السنوات الأخيرة التي شهدت فيها اللحوم الحمراء ارتفاعا باهظا في الأسعار، أبعدها وبشكل كبير عن تربّعها على وجبات المناسبات الكبرى لصالح «الحاشي» البري، الذي أوجد لنفسه قاعدة شعبية كبيرة فرضته كخيار رئيس على الأطباق المحلية.

ويقطع مربو الجمال الشهيرة بـ«الحاشي» مئات الكيلومترات من شتى أنحاء المملكة للتنافس في بيع ما يمتلكون في سوق تشهد ربحا كبيرا وموسما مشتعلا وهو فصل الصيف، حيث يتقاطرون إلى العاصمة الرياض التي تغري هؤلاء التجار، الذين تشكل غالبيتهم من البدو الرحل، لجني ثمار تغذية وتسمين المواشي خلال الأشهر التي تستبق دخول الصيف، وهو تقليد سنوي يدر عليهم أرباحا عالية لا يمكن جنيها أو تعويضها فقط إلا هذه الفترة من كل عام.

مفلح الرشيدي تاجر إبل قطع أكثر من 300 كيلومتر بقطيع يزيد عدده على 60 رأسا، لبيعها في الكرنفال السنوي الذي اعتبره رقما صعبا في تحقيق الأرباح، يقول: «منذ أكثر من 8 أعوام وأنا أحرص على المشاركة بما أمتلكه من (حلال)»، وهي الكلمة الدارجة بينهم في وصف المواشي، وبيع أكبر عدد ممكن منها والمشاركة في اقتسام كعكة الأرباح التي اعتبرها مصدر رزقه الوحيد، نظرا إلى تفضيله حياة البدو والترحال وتربية الجمال، والتنقل بها بين الأودية والشعاب المختلفة بحسب توافر الماء والكلأ، على الحياة المدنية التي وصفها بالمملة.

وحول طريقة تربيتهم الإبل والفرق بينها ومعرفة الجيد منها، أشار الرشيدي إلى أن الإبل التي ترعرعت ونشأت في الصحراء الطبيعية، هي الأكثر رغبة والأشد رواجا عن غيرها من النوع الآخر الذي نشأ في حظائر مجهزة وتتناول الوجبات المعدلة والمصنعة. وأوضح إلى أن ما يميز الجمل البري عن غيره هو آثار بقع الأعشاب على جسده نتيجة نومه وتقلبه بها، إضافة إلى نفرته وفزعته من التجمعات البشرية، إذ إن الجمال البرية لم تعتد رؤية أعداد كبيرة من البشر نظرا إلى وجودها الدائم في الصحراء.

وفي زاوية السوق وجدنا العم حجاب الرويضان الذي شارف عمره على توديع العقد السادس، فقد أبان أنه يعد من كبار التجار الرحل، وتربطه علاقة وثيقة سنوية مع زبائنه الذين يلتقونه لشهرين فقط طوال العام، حيث إنه يتواجد في المراعي القريبة من قريته التي يقطن فيها التابعة لإحدى محافظات شمال المملكة وتبعد قرابة الـ550 كيلومترا. مبينا أن لخبرته التي امتدت إلى أكثر من 50 عاما في سوق «البعارين»، دورا في تقديم الاستشارات إلى الراغبين في الشراء، وأنه ينوي توريث المهنة لأبنائه من جيل إلى آخر، الذين يمتلكون أيضا أعدادا أخرى من الإبل ويحتلون زاوية أخرى من السوق.

وحول أعمار الإبل الأشد رغبة، كشف العم حجاب عن أن الإبل ذات الأعمار الصغيرة هي الأعلى طلبا، وهي التي تتراوح أعمارها بين 3 و6 أشهر، وقد تصل إلى 8 أشهر كحد أقصى، نظرا إلى تفردها بمذاق فريد ولحم أبيض يسهل تقطيعه، وهو الأكثر طلبا، خصوصا لمناسبات الأفراح. وأضاف أنهم يعمدون خلال الأشهر الستة التي تستبق الكرنفال السنوي، إلى التقصي والبحث عن أفضل المراعي التي هطلت عليها الأمطار خلال فصل الشتاء، وذلك للاتجاه إليها وإطلاق المواشي فيها للتغذية والرعي، مشيرا إلى أنهم يواجهون الكثير من المتاعب في عملية تربية وتسمين المواشي، ومن ثم نقلها إلى العاصمة الرياض لبيعها، لكن الأرباح التي يستخرجونها جزيلة، وتستحق عناء ما يمسهم من أسواط الشمس وحرارة المناخ والصعوبات الأخرى، خصوصا البحث عن المتاعب «في إشارة إلى المراعي والكلأ».

وفي صلب الموضوع أوضح فهد البدراني، وهو تاجر من محافظة الأفلاج التي تتبع إداريا إلى منطقة الرياض وتبعد عنها قرابة 320 كيلومترا، أن للأمطار دورا كبيرا في تحديد أسعار السنة، ففي كل عام تختلف الأسعار عن العام الذي يليه، إلا أنها متقاربة إلى حد كبير ولم تشهد قفزات كغيرها من المواشي الأخرى، لافتا إلى أن لأمطار هذه السنة التي روت معظم أودية المملكة، دورا في توافر إنتاج جيد ترعرع بشكل طبيعي بعيدا عن لجوء البعض إلى الأغذية الجاهزة، مبينا أن الأسعار تختلف بحسب حجم الحاشي ومنطقة النشأة، إلا أنها لا تبرح ما بين 2500 ريال و6000 ريال، لافتا إلى أن للخبرة دورا في تحديد أنواع الجمل وعمره، معترفا بصعوبة ذلك على غير المتمرسين، ما قد يوقعهم في عملية غش لا قدر الله، ناصحا المستهلكين باللجوء إلى الأنواع ذات المنشأ الوطني التي هي أشد رواجا مقارنة بغيرها من المستورد، وعلى رأسها السودانية والباكستانية التي تتشابه إلى حد كبير مع المحلية، موضحا أن أكثر من يستهلك المستورد هم أصحاب المطاعم والمطابخ.

واختتم البدراني حديثه بأن رحلة تلقيح المواشي ومن ثم تربيتها لعدة أشهر ومن ثم نقلها والنزوح بها إلى الرياض، عملية شاقة تتطلب جهدا وجلدا كبيرا، لافتا إلى أن معظمهم توارثوا المهنة عن أجدادهم وأنها لن تنقطع مهما تطوّرت الحياة العصرية إذا ما أُخذ بالحسبان أن السوق تطلب المزيد من المواشي والإقبال على أشده والحجز يتم قبل قدومهم إلى سوقهم الموسمية التي يرابطون فيها لشهرين متتاليين، ومن ثم يودعونه مهاجرين مرة أخرى إلى ديارهم، لتبدأ الرحلة القادمة بعد 10 أشهر، وتعاد الكرة بشكل سنوي وستستمر إلى ما لا نهاية.