مسجد «تقسيم» في اسطنبول بسبعة طوابق تحت الأرض

حاز جائزتين معماريتين دوليتين ويحتفي بالتراث العثماني والإسلامي

المعماري التركي أحمد فافيتش ألب وأمامه نموذج للمسجد الذي صممه لكي يشيد في ميدان تقسيم في تركيا (نيويورك تايمز)
TT

قبل ثلاثة أسابيع من بدء اكتساح المظاهرات أنحاء تركيا، سافر المهندس المعماري أحمد فافيتش ألب إلى صاني لاندز، منتجع زعماء الدول الشهير جنوب ولاية كاليفورنيا، حيث عرض مخططه لمشروع في ساحة «تقسيم» بإسطنبول الذي كان بمثابة الحلم للحركة الإسلامية في تركيا على مدى عقود: مسجد ضخم يحتفي بالتراث الإسلامي والعثماني في الدولة.

وقدم ألب أمام جمع من أعضاء المعهد الأميركي للمهندسين المعماريين، عرضا بشرائح مصورة جسدت رؤية حديثة وتضمنت سبعة طوابق تحت الأرض لمكتبة ومتحف وقاعة مؤتمرات ومطعم وصالة ولائم. وقد حاز التصميم جائزتين معماريتين مهمتين، على الرغم من أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان قد ضغط من أجل تصميم مستلهم من الحقبة العثمانية.

والآن، ذهبت خططه أدراج الرياح، فليس بوسع ألب سوى المشاهدة والانتظار. كتب في رسالة بريد إلكتروني: «آمل ألا يقع مشروع المسجد هذا الحائز جائزة ضحية للنزاعات السياسية والأيديولوجية».

أوقدت خطة الحكومة لتدمير حديقة جيزي، التي تعتبر جزءا من ميدان تقسيم، وبناء ثكنات عسكرية تحاكي الثكنات في العصر العثماني ومركز تسوق، شرارة أسابيع من تظاهرات الشوارع العنيفة، التي تمثل بالنسبة لأردوغان أكبر أزمة سياسية واجهها خلال أكثر من عقد في السلطة. لكن خطة إنشاء مسجد كبير في الساحة تبدو، في أعين كثير من المحللين هنا، الجوهر الحقيقي للنزاع.

إن بناء هذا المسجد يمثل أملا لإسلاميي تركيا يعود إلى عقود مضت، بل ولعب دورا في التدخل العسكري السابق في السياسات التركية في عام 1997، عندما قام جنرالات الجيش بمناورات من أجل الإطاحة برئيس وزراء إسلامي.

والآن، بعد أن احتج الناس - لا الجيش - ضد خطط التنمية الحضرية التي تتبناها الحكومة الإسلامية الحالية، أشار المحللون إلى أن إحدى تبعات الاضطراب هي أن أردوغان لن يكون قادرا في نهاية المطاف على تحقيق رؤيته لساحة تقسيم.

وستكون هذه هي المرة الثانية التي حاول من خلالها بناء المسجد وفشل، وبتكاليف سياسية فادحة. بوصفه عمدة إسطنبول في عام 1997، شهد الأحلام نفسها التي أطاح بها تدخل الجيش.

ولا يعني هذا أنه قد استسلم. فمع محاصرة الاحتجاجات حكومته، تراجع أردوغان عن خطط إنشاء مركز تسوق في ساحة تقسيم، لكنه استمر في الترويج لمشروع المسجد.

وفي خطاب أخير له قال: «سيشيد مسجد في ساحة تقسيم. لست بحاجة إلى إذن من المعارضة الأساسية وحفنة من الناهبين. لقد منحنا السلطة من قبل هؤلاء الذين صوتوا لأجلنا في صندوق الاقتراع».

في تسعينات القرن العشرين، تحت قيادة نجم الدين أربكان، أول رئيس وزراء لتركيا من التيار الإسلامي، أشرف أردوغان على لجنة محلية مسؤولة عن مشروع المسجد، لكن الفكرة كانت مقيتة بالنسبة للنخبة العلمانية في تركيا، التي ربما لا يزال بإمكانها الركون إلى الجيش في حماية الأسس العلمانية للدولة.

وأشار تقرير إخباري محلي نشر في يناير (كانون الثاني) 1997 إلى أن الأتراك العلمانيين عارضوا بناء المسجد لأن من شأنه «تجسيد سطوة الإسلاميين على ساحة تقسيم، وأيضا على الدولة بأسرها». قد تأتي تلك الكلمات بسهولة على لسان المتظاهرين اليوم.

وقالت عائشة حور، المؤرخة وكاتبة الأعمدة بصحيفة «راديكال»: «الدوائر التي تعارض مشروع بناء مسجد في ساحة تقسيم أو الثكنات قد تعترض ذلك كمحاولة لإعادة كتابة التاريخ العلماني الرسمي».

وأضافت حور: «نحن نعلم مدى عشق الحكومة للتاريخ العثماني ومدى العدوانية التي تبدو عليها تجاه تاريخ الجمهورية».

ومن ثم، على حد قول حور وآخرين، كانت مجرد صدفة أن التظاهرات المعارضة للنظام التي هزت أركان تركيا على مدار الأسابيع الماضية بدأت باعتصام لإنقاذ حديقة جيزي، التي لم تكن مطلقا مكانا ذا خصوصية بالنسبة لمعظم سكان إسطنبول، وكان يعتقد أنها خطيرة ومكان مفضل لقضاء فترة الليل بالنسبة لمستخدمي المخدرات.

ولكن عندما بدأت الحكومة تقتلع الأشجار، أصبحت رمزا لآلاف المواطنين المظلومين والدمار والاستبداد المتنامي لحكومة تتولى السلطة الآن منذ أكثر من عقد وعازمة على المضي قدما في مشروع المسجد الأكثر إثارة للجدل.

لدى أردوغان رؤية لإعادة تشكيل ساحة تقسيم، ليس فقط من خلال المسجد، الذي قد يقام بالقرب من القنصلية الفرنسية، ولكن أيضا بإنشاء ساحة ضخمة عن طريق هدم صف من محلات الكباب والشاورمة.. الأمر الذي من شأنه أن يقيم مساحة مشاة بين المسجد وكنيسة أرثوذكسية، تجاور من شأنه أن يرمز للتسامح العثماني مع الأقليات من أصحاب الديانات الأخرى خلاف الإسلام.

وقال نورمان ستون، وهو مؤرخ وأستاذ بجامعة بيلكنت في أنقرة، عاصمة تركيا: «نظرا لوجود الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية هناك، فإنها ستكون بمثابة حجة مضادة». وشرح أن وجود مسجد هناك سيكون رمزا لـ«القومية الإسلامية».

وأضاف: «إعادة تشكيل ساحة تقسيم أمر غاية في الأهمية بالنسبة لأردوغان». لقد كافح ألب نفسه في فترات مع أردوغان. وقد انتقل رئيس الوزراء، الذي اشتهر بإدارته كثيرا من مشروعات البناء في إسطنبول، عبر معارضات وسيطة إلى بعض جوانب تصميمات المسجد، حسبما أفاد ألب.

«رئيس الوزراء أخبره بأن الأمر مفرط في الحداثة، وأنه يفضل الأنماط العثمانية والسلجوقية»، هذا ما قاله ألب، الذي أشار إلى أنه قد يضيف لمسات كلاسيكية إلى المآذن ويلغي مصعدا كهربائيا، ولكن ليس أكثر من ذلك. وأضاف: «إنها وظيفة حساسة جدا بالنسبة لي. سوف نجري بعض التغييرات البسيطة. لكن لدي خطوط حمراء».

لقد دفعته مطالب من حكومة أردوغان لمحاكاة عمل المهندس المعماري العثماني الشهير ميمار كوكا سينان.

وقال: «أؤمن بأن الهندسة المعمارية ينبغي أن تمثل العصر. أخبرتهم بأنني لن أقيم نسخة من مسجد عثماني. ينبغي أن يمثل الفن المعماري ثقافة العصر وتقنياته وسلوكه. سيكون من الخطأ محاكاة سينان».

لقد كتب ألب مقالا يقارن فيه خطط التنمية الطموحة التي تبناها أردوغان - ليس فقط في تقسيم، بل في المناطق الأخرى، وعلى وجه الخصوص مسجد على رأس التل في إسطنبول الذي سيصبح أكبر مساجد تركيا - بتلك التي اضطلع بها الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في الثمانينات التي اعتبرها البعض محاولة متعجرفة لتخليد ذكرى الفترة التي قضاها في السلطة.

«كان بدرجة ما مثل أردوغان»، هذا ما قاله ألب.

* شاركت سيلان ييغينسو في كتابة التقرير.

*خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»