السجاد القيرواني فاقت شهرته حدود تونس لتصل إلى العالم

أصله عثماني.. أدخلته إلى تونس امرأة من أصول تركية

تاجر يعرض السجاد القيرواني أمام السياح
TT

إذا كان هناك علامة مميزة لمدينة القيروان التونسية بعد جامع عقبة بن نافع، فهي بلا منازع السجاد القيرواني أو الزربية القيروانية كما يسميها التونسيون الذي فاقت شهرته حدود تونس لتصل إلى العالم كعنوان للإبداع والإتقان والصنعة الأصيلة، سواء من حيث جودة المادة التي يصنع منها الصوف أو الأشكال الهندسية والتراثية التي يزين بها هذا السجاد والتي تطورت عبر الزمن وتنوعت دون أن تمس بالأصل والجوهر.

ليس من قبيل الصدفة اختيار سلطات مدينة القيروان وضع نصب يجسد السجاد القيرواني في المدخل الرئيس للمدينة.. فحين تذكر الصناعات التقليدية التونسية، فإن أول ما يقفز إلى الذهن هو السجاد القيرواني الذي يحظى بشهرة واسعة، ليس على المستوى المحلي التونسي فقط بل على المستوى العالمي.. لأن السجاد يبقى عنوانا مميزا ليس لمدينة لقيروان فحسب بل لتونس كاملة.

تعود صناعة السجاد في تونس لما قبل القرن التاسع عشر الذي ظهر فيه السجاد القيرواني. حيث تفنن البربر منذ قرون في حياكة ونسج أنواع أخرى من السجاد يصنع بعضها من صوف الخرفان وبعضها الآخر من وبر المعز أو الإبل.

أما السجاد القيرواني فتجمع الروايات تقريبا أن أصله عثماني أدخلته إلى تونس امرأة من أصول تركية، تقطن مدينة القيروان، انبهرت بالسجاد التركي واستقدمت من الأناضول معلمة قامت بتدريب مجموعة من فتيات القيروان على صنع السجاد وذلك في بداية القرن التاسع عشر، وتعلمت معهن الصنعة، ولكنها لم تلتزم بأشكال السجاد العثماني، بل عمدت إلى زخرفة أشكال مستمدة من تراث تونس العربي والبربري. وهي الرواية التي رددها أكثر من صاحب محل لبيع السجاد تحدثت إليه «الشرق الأوسط» سواء في سوق السجاد في مدينة القيروان أو في أكبر محل لبيع الزرابي بمدينة تونس العتيقة. وقد أكد جميعهم أن الكثير من المدن التونسية الأخرى، عدا القيروان، انخرطت بدورها ومنذ عقود في صناعة السجاد القيرواني وفق التقاليد نفسها، وقامت بتطويره من حيث الأشكال الهندسية والزخرف والمادة الأولية.

ورغم التطور الذي عرفته الأشكال الهندسية والرسوم التي تزين السجاد فإن مختلف هذه التطويرات ولمسات الحداثة قد أثرت السجاد القيرواني ولكنها لم تغيب أصالته وجوهره. كذلك فإن أهالي القيروان واصلوا إلى جانب صنعهم للسجاد التقليدي، إنتاج نوع خاص بالمدينة يسمى بـ«العلوشة» (أنثى الخروف في اللهجة العامية التونسية) ويتميز بالخصوص باعتماده على الألوان الطبيعية للصوف البيضاء والسوداء والرمادية والبنية دون استعمل للأصباغ.

وتعود خصوصية السجاد القيرواني في جانب منها إلى براعة التونسيين منذ العصور القديمة، وحتى انطلاقا من دولة «قرطاج» في التعاطي مع مادة الصوف التي يصنع منها السجاد، سواء من حيث استخراجها أو تنظيفها وتجفيفها ثم غزلها وتحويلها إلى خيوط قبل أن تصل إلى أيادي النسوة التي يقمن بحياكة السجاد.. ولا غرابة في ذلك بما أن القيروان التي تبعد نحو 150 كلم جنوب غرب العاصمة تونس، تتوسط أكبر المناطق التونسية المعروفة بتربية الأغنام، أي المورد الأساسي للمادة الأولية للسجاد وهي الصوف الذي أعطى هذا السجاد خصوصيته هذا فضلا عن خصوصية الأشكال التي تزينه.

كما أن أحد نقاط قوة السجاد القيرواني هي الصرامة في التعامل مع الجودة حيث يخضع السجاد إلى المراقبة والتأكد من أنه صنع وفق التقاليد ومن مواد أولية ذات جودة عالية.

ويقوم بعملية مراقبة الجودة «الديوان الوطني للصناعات التقليدية»، وهو هيئة حكومية تشرف على قطاع الصناعات التقليدية في تونس، يتولى بعد عملية المراقبة وضع ختم (ويسمى في تونس الطابع) على قفا السجاد وهو عبارة عن بيانات توضح النموذج وعدد العقد ونوعية المواد والأصباغ المستعملة التي يقع على أساسها تصنيف السجاد. وهذا الختم هو بمثابة الضمان لجودة المنتج. ويصنف السجاد إلى سجاد من الصنف الأول أو من الصنف الثاني وفق عدد الغرز أو العقد في المتر المربع الواحد. وأفضل الأنواع هو صنف (40 / 40) الذي يحتوي على 16 ألف «غرزة» أو عقدة في المتر المربع الواحد، يليه صنف (30 / 30).

السيد محمد المنصف المدلسي تاجر بسوق الزرابي بالقيروان استظهر بعدد من الأختام القديمة التي وقع استخدامها للتأشير على تصنيف السجاد وجودته يعود أقدمها إلى سنة 1934، وأكد لـ«الشرق الأوسط» أنه يحدث أن يرفض الديوان وضع الختم على منتج ما بسبب عيوب في الصنع أو المادة الأولية.

ويتخذ السجاد القيرواني غالبا شكل مستطيل ترسم عليه أشكال مختلفة من بينها المحراب أو الأزهار أو أدوات من التراث التونسي العربي أو البربري وتكون حاشيته على شكل أشرطة من الصوف الأبيض متساوية الطول. وتتفاوت أحجام السجاد، إذ يوجد السجاد من الحجم الكبير الذي يقبل عليه أصحاب البيوت الشاسعة والصالونات الرحبة، من ذوي الإمكانيات المادية، كما يوجد السجاد من الحجم المتوسط الذي يقتنيه التونسي المتوسط الإمكانيات، أو السجاد الصغير الذي يستعمل عادة للصلاة في البيوت أو كقطعة ديكور.

كما تختلف الأسعار حسب الجودة والصنف والزينة والأشكال الهندسية، وأفضل الأصناف يباع بين 200 و300 دينار تونسي للمتر المربع الواحد، في حين يمكن أن تباع أصناف أخرى بين 100 و150 دينارا تونسيا.

وتبقى المهارة اليدوية للنساء اللاتي ينسجن السجاد أهم ركن في عملية الإنتاج. ويصنع السجاد باستخدام «النول» إما في البيوت أو في المصانع التي حافظت على الطرق التقليدية لصناعته. وتعاني تونس اليوم من نقص في الكفاءات المدربة التي تحسن نسج السجاد.

ورغم المصاعب التي أصبح يواجهها السجاد القيرواني في السنوات الأخيرة، بسبب المزاحمة التي يلقاها من السجاد الاصطناعي الوافد على تونس من بلدان شرق آسيا، وارتفاع كلفة المواد الأولية، ومشكلات التسويق، فإنه تظل له مكانة خاصة عند التونسيين، ويبقى عنوانا لرفعة الذوق وللرفاهة، وهو إلى الآن ينافس المفروشات الحديثة مرتفعة الثمن.. يفرشه الأعيان والأثرياء في كل أرجاء بيوتهم. ويهديه الميسورون إلى المساجد والجوامع لاستعماله كمفروشات للمصلين. كما أنه يهدي لكبار ضيوف الدولة الذين يزورون تونس تعبيرا على رفعة مكانتهم. في حين يقبل السياح ذوي الإمكانيات المادية المحترمة على شراء أفضل وأكبر «الزرابي» مباشرة من المحلات المختصة أو عبر الإنترنت.

وتوجد أكبر وأشهر محلات بيع السجاد القيرواني والزربية التونسية في مدينة تونس العتيقة بالقرب من جامع الزيتونة المعمور.. كما أن بعض المستثمرين فتحوا محلات لبيع السجاد في أحياء راقية جديدة من العاصمة التونسية مثل منطقة «البحيرة».

السيد البشير بن غربال صاحب محل «قصر الشرق» بالمدينة العتيقة، قال لـ«الشرق الأوسط» إن « القطاع يمر ببعض الصعوبات بسبب تراجع الإقبال السياحي وبسبب نوعية السياح الذي يفدون على تونس والذين تبقى إمكانياتهم المادية متواضعة، ولا يقدرون على اقتناء السجاد القيرواني أو الزربية التونسية، ويكتفون غالبا بالفرجة على المعروضات أو اقتناء قطعة صغيرة في أحسن الأحوال»، مشددا على «وجوب قيام السلطات المشرفة على قطاع الصناعات التقليدية التونسية بحملة تسويقية كبرى للسجاد القيرواني لأنه قادر على المنافسة، ويوفر الشغل لعشرات الآلاف من التونسيين والتونسيات».

خلال حديثنا مع السيد بن غربال دخلت المحل مجموعة من السياح الإسبانيين صحبة دليل سياحي تونسي. وقد قام عاملان بالمحل بتقديم عرض عن السجاد التونسي لهذه المجموعة وقاموا باستعراض أنواع كثيرة منه أمامهم والحديث عن خصوصية كل نوع من حيث الصنف والأشكال الهندسية المرسومة عليه وقد عبر أفراد هذا الفوج السياحي عن إعجابهم بالسجاد وقال بعضهم لـ«الشرق الأوسط» إنهم سمعوا بالسجاد التونسي من قبل وخصوصا السجاد القيرواني.

في محل آخر لبيع السجاد في المدينة العتيقة لتونس، نصب أصحابه نول صغير لنسج السجاد في الباحة الرئيسة جلست خلفه فتاة تونسية انهمكت في عملية النسج لإعطاء فكرة للزائرين عن كيفية صنع السجاد. صاحب هذا المحل قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يتعين على جميع المعنيين بالسجاد التونسي بذل جهود أكبر لمزيد التعريف بهذا المنتج التقليدي الثمين والتسويق له في الأسواق الخارجية وخصوصا الأميركية واليابانية والأسترالية والخليجية لأن لهم مقدرة شرائية جيدة» حسب قوله مضيفا: «نحن نتمنى كذلك أن يحرص كل تونسي على اقتناء سجاد أصلي، وإلى أن نربي الأجيال القادمة على ذلك لأننا بذلك فقط نحافظ على هذا المنتج الثمين ونضمن ديمومته وتواصله».