نظرة على عالم إبراهيم الصلحي من خلال أول معرض له في بريطانيا

رسالة الفنان السوداني للمتلقي: «استمع للعمل فلو أعرته أذنيك فسيفضي إليك بالكثير»

صدى أحلام الطفولة
TT

صيف لندن هذا العام عربي بامتياز على الأقل من حيث عدد الفعاليات العربية التي تتناثر ما بين مؤسسات ثقافية عريقة والحفلات الغنائية والمعارض الفنية الواقع معظمها تحت مظلة مهرجان «شباك» للثقافة العربية الذي انطلق الأسبوع الماضي. وحصد الفن التشكيلي العربي نصيبا وافرا من خريطة الفعاليات عبر معارض لفنانين عرب رواد مثل معرض سلوى شقير الذي افتتح الشهر الماضي وأخيرا معرض انتظره الكثيرون لرائد الفن الحديث في السودان إبراهيم الصلحي. المعرض الذي يعتبر الأول للفنان في بريطانيا ينطلق غدا في متحف «تيت مودرن» ويضم 100 عمل للفنان تعبر فيما بينها عن مراحل هامة في حياته.

المعرض يحملنا في رحلة عبر حياة الفنان انطلاقا من البدايات حيث تدرب وعمل مدرسا في السودان ثم أعمال تعكس مرحلة دراسته في مدرسة سليد المرموقة بكلية جامعة لندن في عام 1954 وهي مرحلة يشير إليها دليل المعرض بأنها «مرحلة اكتشاف الذات».

وبعد انتهاء دراسته عاد إلى السودان لينتج أعمالا فنية تختلط فيها التأثيرات، خلط فيها ما بين التراث الأفريقي والعربي الإسلامي مع عناصر معبرة عن آخر اتجاهات الفن الأوروبي. وإلى جانب التأثيرات الفنية التي تعرض لها الفنان فهناك الأزمات الشخصية وتأثيرها على أعماله ومنها تجربته في السجن وما أنتجه من أعمال فنية حزينة بالأبيض والأسود، والكثير من أعماله بعد فترة سجنه فضلا عن لوحات ورسومات أنتجت بعد عودته لأكسفورد بإنجلترا عام 1998، والتي تعكس فرحته للحياة، والإيمان الروحي العميق، والإحساس العميق بالنفس في العالم.

الصلحي حرص على حضور العرض المخصص لوسائل الإعلام أمس وبدا بملابسه السودانية التقليدية وابتسامته المطمئنة كأحد الشخوص التي تطل علينا من لوحاته وإن كان أكثر طمأنينة وتصالحا مع النفس. «الشرق الأوسط» التقت الفنان في حديث حول أعماله والتقنيات التي يستخدمها ونظرته للماضي وتأثيراته واستشرافه للمستقبل.

يبدأ الصلحي بالإشارة إلى أن ما يهمه كفنان هو أن تصل رسالته إلى المتلقي بأي شكل: «أنا دائما أسأل الناس هل تحسون بأن هذا العمل بالذات يلمسكم هل هناك شيء مشترك بينكم؟ في إحدى المرات في الشارقة وأثناء معرض لي سألت أحد الحاضرين عما إذا كان أحد أعمالي التجريدية قد أثار في ذهنه أشياء، فقال (نعم أوحى لي بكذا وكذا)، فقلت في نفسي (الحمد لله، إذا كان باستطاعة الجمهور رؤية الأشياء التي لا أقدر أن أعبر عنها إلا عن طريق الرسم فهذا شيء يسرني جدا ويطمئنني إلى أن الرسالة وصلت بصورة ما. علما أني أؤمن دائما للمتلقي أن يتعامل مع العمل الفني بطريقته وحتى لو كانت مخالفة لي بالكامل لكن كونها تقبلت وترجمت داخليا بشيء مستمد من العمل نفسه فهذا يكفيني».

يشير دليل المعرض إلى مقولة للفنان يشرح من خلالها كيفية تكون لوحاته، فيقول إنه لا يستطيع التحكم في الصورة النهائية للعمل فهو يسمح للوحة أن تتطور باستقلالية، وأن تكشف بتلقائية صورا وأفكارا موجودة في عقله الباطن ربما لم يدر هو بوجودها.

تبرز ضمن الأعمال المعروضة لوحات نفذت بالأبيض والأسود فقط، تبدو متفردة وقورة وجادة. يقول: «بعضها أعمال ترتبط بمرحلة السجن، ولكني أيضا كنت أجرب الرسم بالأبيض والأسود من ناحية تقنية بحتة، أردت أن أعرف الصلة بين اللونين والجنين الناتج منهما وهو اللون الرمادي وكيف يمكن أن أسخره كلون في أعمالي. كذلك أرى أن اللون الأسود فيه الكثير من الدراما». إلى جانب التقنية يثير اللونان بعض الحزن أو الدراما لدى المتلقي وهو ما يعلق عليه الصلحي بقوله: «هذه الأعمال بها نوع من الحزن وهذا صحيح، فمن الناحية الدينية أعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان (متواصل الأحزان) على حال البشرية وما يحدث لهم وعدم قدرتهم على الوصول لكامل طموحاتهم، فهنا القصة وما فيها أني حاولت التعبير عن الأحزان عن طريق الخط لتبسيط الجانب المرئي، فإذا كان يوحي بالحزن باستمرار فأتمنى أن يتغير ذلك في أعمالي المقبلة، فأنا اعمل الآن على أعمال قد توحي بالفرح».

من الأعمال التي تستوقف الزائر للمعرض عمل بعنوان «بورتريه شخصي.. معاناة»، فيه تعبير عن الخواء نراه في عين الفنان وفي وجهه الشاحب وفي الدوائر الرقيقة التي يتكون منها الوجه. يعلق: «أنا أهتم دائما بالوجه وأركز على العيون وهي بالنسبة لي نافذة للوصول إلى دخيلة الإنسان أو الشخص الآخر. هناك لوحة لي كنت أتمنى أن توجد هنا اليوم تعبر عن ذلك. هي لوحة أمامية لشخص ينظر للإنسان بصورة مباشرة، فيها تحد وكأنها تقول للإنسان: (أنا أعرفك هل تعرفني، أنا أستمع إليك هل تستمع إلي؟) دائما أقول للمتلقي أعط أذنيك للعمل ولا تخلق بينك وبينه برزخا بالمقارنات، استمع فلو أعرته أذنيك سيفضي إليك بالكثير».

التأثيرات على فن الصلحي كثيرة نراها في أعماله، فهناك أحرف عربية وإنجليزية، ورموز إسلامية نراها في الأهلة على أعلى المباني وفي الآيات القرآنية التي ننجح في قراءة بعضها، هناك أيضا تأثيرات فرعونية وأفريقية نراها في أقنعة أفريقية هنا وهناك كل ذلك إلى الجانب الغربي المتمثل في تقنيات الفن الحديث. يقول لنا: «الجانب الغربي هو جانب التقنية فقط ويعكس ما تعلمناه في الغرب. لكن الأشياء التي تثيرني ذاتيا هي الأشياء التراثية فأنا أستند على التراث العربي والإسلامي ثم بعد ذلك الأفريقي، أستند عليها استنادا حقيقيا وما يخرج منها أحاول أن أدمجه بتيمة حديثة تفي بالغرض الآني أكثر من كونها انعكاسا من الماضي. فأنا أعمل على الاستفادة من الماضي في العمل الحاضر»، للتأكيد على ما يقوله يشير إلى لوحة مقابلة بعنوان «صدى أحلام الطفولة رقم 2»: «مثلا هذه اللوحة (نرى فيها كتلة من البشر على يمين الصورة يتقدمهم شخص يشير بإصبعه إلى الجانب المقابل) نرى فيها شخصا قوي البنية يشير إلى الأمام كأن التاريخ يشير إلى المستقبل. يمكنك رؤية فيها نساء عربيات نميزهم بغطاء الوجه وهناك أيضا شخصيات بملامح فرعونية وشخص يحمل سورة الفاتحة على يديه. أنا أرى أننا إذا تمسكنا بالتراث وعشنا فيه وتمسكنا به تمسكا كاملا فنحن نتمسك بشيء أدى دوره وانتهى، أريد أن يكون التراث جدارا قويا نستند إليه ليقوي نظرتنا نحو المستقبل».

في تقديمه للمعرض قال صلاح حسن محمد، مدير معهد الحداثات المقارنة إن الصلحي كون أسلوبا خاصا به وأنه عبر عمله كان «مستشرفا ومجددا» أثر على حركة الفن المعاصر في العالم العربي وفي قارة أفريقيا.

المعرض يقدم مجموعة من الأعمال التقليدية التي نفذها الفنان بعد تخرجه، ومنها مجموعة من البورتريهات الشخصية، يقول عنها صلاح حسن «كنا نريد أن نضيف إليها عمل (طبيعة صامتة) للتدليل على تطور أسلوب الصلحي وكيف ابتعد عن الأساليب التقليدية وبدأ في تجريب أساليب مختلفة. بعد انتهاء دراسته في بريطانيا وعودته إلى السودان بدأ في التفكير بتكوين أسلوب ولغة خاصة تضم فيها الخط العربي ودمجها بتيمات أفريقية، وقام بتفكيك كل تلك العناصر وأعاد تكوينها مرة أخرى».

يذكر أن الصلحي يعد واحدا من أهم الفنانين التشكيليين في السودان وقد قدمت أعماله في معارض كبرى بنيويورك والدوحة وبرلين وغيرها، وحصل على الكثير من الجوائز بما في ذلك زمالة مؤسسة روكفلر ووسام الفنون والمعارف، والآداب.