في مصر.. نسوة وصبية يصنعون الحياة بـ«القسمة والنصيب»

متاجرهم طاولة ومظلة فوق الرصيف

TT

تخشى تهاني («بائعة سجائر جوالة»، وأم لثلاثة أولاد) من الكلام في السياسة، وترد عليك حين تسألها عن رأيها في المعارضة أو نظام الحكم الحالي: «السياسة بحرها غويط وكلها لفّ ودوران، وأنا ست في حالي، بادعي ربنا يرزقني بلقمة حلال تسترني أنا والأولاد».

على مقربة من دكان تهاني المتجول المكون من طاولة خشبية بسيطة وكرسي صغير ومظلة قديمة متهالكة بمنطقة السوق القديم بمدينة الشيخ زايد على أطراف القاهرة، تقبع طاولات أخرى لبيع السجائر على الأرصفة ونواصي الشوارع الجانبية، معظم أصحابها من النساء كبار السن، وبعضها يديرها صبية لفحتهم مرارة الحياة وتردي الأوضاع التي تعيشها البلاد.. ورغم السباق اليومي بحثا عن لقمة عيش شريفة، وقليل من المال يسد رمق الحال أو يعاونهن على شراء الدواء، فإن ملامحهن يختلط فيها الأسى بالأمل، فالرزق «قسمة ونصيب»، كما يقولون.

أم أيمن سيدة تجاوزت الستين، لكنها الأكثر نشاطا ودأبا.. تفتح دكانها الطائر مبكرا في الصباح، وتغلقه بعد منتصف الليل.. بصوتها الرخيم ووجهها الأبيض الشاهق تقول: «أنا تعودت على الصحيان بدري.. والرزق يحب الخفية، وأروّح لما الفرن يشطب. أنا باترك البضاعة والترابيزة عندهم».

اسألها عن أيمن ابنها.. تقول بأسى: «الله يرحمه مات في العراق أيام الغزو الأميركاني أيام صدام حسين.. كان نجار شاطر إيديه تتلف في حرير.. أنا عايشه مع بنتي وأولادها الصغار».

تحتج أم أيمن على شاب يفاصلها في ثمن علبة سجائر محلية وتشوِّح له بيديها: «يا ابني أنا مكسبي فيها ملاليم لو مش عاجبك اشتري من البقال.. يا تبطل الهباب دة». لكن الشاب يحتوي غضبها خجلا ويلاطفها قائلا: «أنا أمزح معك يا أم أيمن».

ترمقه بابتسامة ودود، وتهمس موجهة حديثها إليّ: «أنا علاجي كل شهر يكلفني أكثر من 200 جنيه.. لولا بعض الناس المحسنين ما كنتش أقدر أجيبه.. السكر بياكل في عضمي، ورجلي يدوب شايلاني».

تفرح أم أيمن حين يتحول دكانها الطائر إلى ما يشبه «مجلس نسائي»، ففي أوقات كثيرة تتحلق حولها على الرصيف بعض النسوة، يفضفضن بما يجيش في صدورهن، من هموم وضيق الحال، وأيضا من مشاكسات أزواجهن، ويتلمسن النصيحة منها، فهي، على حد وصف «سعدية»، إحدى المواظبات على هذا المجلس، «مخزن أسرار، وعندها حكمة ورأي سليم، وهي ست طيبة قلبها أبيض».

لكن أسارير وجه أم أيمن تنفرج وأنا أستفزها على صفحة الماضي الجميل: «أكيد كنت زى القمر في شبابك».. تضحك ويكسو صوتها نبرة اعتزاز: «الرجالة كانوا بيتهافتوا عليّ.. كنت شابة عفية.. زوجي الأول مات بمرض الكبد، وزوجي الثاني صدمته عربية. لكن الحمد الله على كل حال».

تضحك وأنا أقول لها: «زبائن تهاني أكثر منك»، وترد بسرعة متوقعة: «تهاني شابة جميلة مدندشة وروحها طيبة.. وبتعرف تجامل الزبون بكلمة وضحكة حلوة».

ومثل تهاني التي تتحجج بأن لها أولادا على أبواب الجامعة سيوجهون لها اللوم، ترفض أم أيمن أن التقط لها صورة، لكن حجتها أنها أصبحت عجوزا والصورة «مش هتطلع حلوة».. وتروي لي بضيق أن أحد الشباب الملتحين مر عليها قبل يومين ونهرها بشدة قائلا لها: «شوفي حاجة تانية بيعيها.. السجائر حرام في شرع الله».

وتواصل بسخرية: «كنت هنط في كرشه.. حتة عيل جاي يفهمني إيه هو الدين.. قلت له غور من وجهي.. الضرورات تبيح المحظورات.. والله لولا الناس كنت عرفته شغله».

أترك غضب أم أيمن وأتجول شاردا في السوق.. تقطعني وجوه ذابلة اختفت من ملامحها البهجة، فلم تعد تفاجئك - كما كان الحال من قبل - ضحكة ترن بالمقهى، أو قفشة تجدد هواء المرح بالمكان.. الكل مهموم بضغوط الحياة، مشغول بالبحث عن لقمة العيش.. شكوا من ضيق الحال وارتفاع الأسعار الذي لم يرحم حتى السلع الأساسية كالأرز والزيت والسكر.. وغيرها. فمثل تهاني وأم أيمن نساء وأطفال وشبان وشابات، أصبحوا يمتهنون أي شي من أجل لقمة العيش، وأصبح مألوفا أن يتلوى هؤلاء بين العربات في الشوارع والطرقات، وبينهن نساء منتقبات ربما مجاراة للأوضاع السياسية في البلاد، من أجل بيع علبة من المناديل الورق، أو حزمة من نبات النعناع.

ولم أكد أهم بمغادرة السوق حتى تناهي إلى أذني من بعيد صوت شاب يدندن: «مصر يا امه يا بهيّة.. يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وأنت شابة.. هوة رايح وأنت جاية».. شدتني أغنية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في فيلم «العصفور» الشهير، وانتبهت إلى مصدر الصوت بالشارع الرئيس بالحي.. لم يختلف المشهد كثيرا عن طاولة تهاني وأم أيمن.. فهما أحمد وأبشوي، شابان يتراوح عمريهما بين العاشرة والرابعة عشرة، اتخذا من بيع السجائر وبعض العصائر الشعبية على عربة جوالة مصدر رزق لهما، ووحدت الطاولة الصغيرة والمظلة المنصوبة في ركن الشارع تحت لفح الشمس بين عقيدتيهما الإسلامية والمسيحية.

قال أحمد ابن العاشرة: «أنا أدرس بالصف الثالث الابتدائي، وأبيع السجائر لأساعد والدي وأمي وإخوتي الصغار في مصاريف البيت ومصاريف تعليمي.. أبي عامل بالأجرة، وصحته على قده، وأنا باشتغل أي حاجة أقدر عليها».

أما أبشوي صاحب الصوت الجميل، فقبل أن أسأله بادرني بحماس ظافر: «أنا من سوهاج وعندي مواهب وأكتب أشياء زى الزجل والشعر، وبحب الشيخ إمام ونجم وبحفظ شعره.. أنا وأحمد أصدقاء نتناوب بيع السجائر والمشروبات.. نصنعها معا، لكن العربية بنأجرها باليومية».

وعدته بأنني سأعود إليه وأسمع أشعاره.. فقال بأسى: «أنا نفسي أكمل تعليمي.. تركت المدرسة وأنا في رابعة ابتدائي.. اشتغلت في مهن كثيرة». وقبل أن أودعه همس في أذني وكأنه يطلعني على سر: «على فكرة أنا أشارك في مظاهرات ميدان التحرير مع الثوار».. ابتسمت له، وبدأت أفكر كيف سأرسم صورته على هذا الورق.