حينما «يدردش» الإيطاليون.. تتحدث الأيدي والأصابع

بعضهم يمزح قائلا إن الإيماءات ربما تبدأ قبل الولادة

بعض الأحيان قد يخرج استخدام الإيماءات عن نطاق السيطرة
TT

في المسرح العظيم المقام في الهواء الطلق، ألا وهو مدينة روما، تتحدث الشخصيات بأيديها بقدر حديثها بأفواهها. بينما يتحدث الأشخاص بشكل مفعم بالحيوية عبر هواتفهم الجوالة، أو يدخنون السجائر، أو حتى يقودون سياراتهم الصغيرة بسرعة بطيئة عبر الازدحام المروري في ساعات الذروة، يلوحون بأيديهم في تناسق أنيق يُحسدون عليه.

من الأصابع الكلاسيكية المضغوطة في مقابل الإبهام التي قد تعني «ما الذي تريده مني؟»، أو «لم أولد بالأمس»، إلى يد يتم تدويرها ببطء، وهي الإيماءة التي تعني «أيا كان»، أو «سيكون هذا هو اليوم»، ثمة بلاغة في حركات أيدي الإيطاليين. في ثقافة تثمن الخطابة، لا يوجد شيء يبعث روح الخطابة في الأجواء بشكل أسرع.

بعض التلميحات بسيطة؛ وضع جانب اليد على البطن، هي إيماءة تعبر عن الجوع. إصبع السبابة مثنٍ على الخد، إيماءة تعني أن ثمة طعاما مذاقه طيب، أو أن ثمة شيئا يتوافق مع المنطق، أما تربيت الشخص على معصمه، فهو إشارة معروفة تعني «أسرِع». غير أن ثمة إشارات وإيماءات أخرى أكثر تعقيدا. وهي تضيف نبرة «القدرية أو الحتمية أو التسليم أو ضجر العالم»، التي تعتبر جزءا أصيلا من التجربة الإيطالية.

عند فتح اليدين، يمكن أن تكون تلك إشارة لسؤال حقيقي: «ما الذي يحدث؟». لكن وضع اليدين في وضع الصلاة يصبح نوعا من التضرع والابتهال، في إشارة إلى سؤال تقريري: «ما الذي تتوقع مني فعله حيال هذا؟». أو سؤال بلاغي: «ما الذي تتوقع مني فعله حيال ذلك؟» اسأل عن الموعد الذي يحتمل أن تصل فيه حافلة من روما، وستكون الإجابة الشائعة ممثلة في هز الأكتاف، وإصدار صوت أشبه بصوت ماكينة تدور، ورفع اليدين بمعنى «فقط عندما تشاء العناية الإلهية».

بالنسبة للإيطاليين، تأتي الإيماءات بشكل طبيعي. يتساءل باسكوال غوارانسينو، وهو سائق سيارة أجرة من روما في حالة تجمد شديد من البرد، واضعا ذراعيه في مقابل جانبيه: «أتعني أن الأميركيين لا يستخدمون الإيماءات؟ أيتحدثون هكذا؟». كان جالسا في مقعده يتحدث مع صديق بالخارج، كل منهما يحرك يديه في حركات متواصلة. وحينما طلب منه أن يصف إيماءته المفضلة، قال إنها ليست ملائمة للنشر.

في إيطاليا، يستخدم الأطفال والبالغون الإيماءات. والمسنون يومئون بالمثل. بعض الإيطاليين يمزحون قائلين إن الإيماءات ربما تبدأ قبل الولادة.

وقالت لورا أوفيدو، البارعة في استخدام الإيماءات من روما، وهي تضغط إصبعيها معا وتحرك يدها لأعلى ولأسفل: «عند إجراء أشعة بالموجات فوق الصوتية، أعتقد أن الرضيع يقول: أيها الطبيب، ما الذي تريده مني؟».

وفي ظهيرة أحد الأيام القريبة، كان رجلان في منتصف العمر يرتديان حلتين داكنتين في محادثة متعمقة خارج ردهة متجر الآيس كريم «جيوليتي» في وسط مدينة روما، وهما يومئان بينما يحملان آيس كريم في رقاقة بسكويت على شكل مخروط. وأشار واحد منهما، ذكر أن اسمه أليساندرو، إلى أن الأشخاص الأصغر سنا يستخدمون إيماءة لم يستخدمها جيله؛ علامات تنصيص كرمز للسخرية.

في بعض الأحيان قد يخرج استخدام الإيماءات عن نطاق السيطرة. في العام الماضي، أصدرت المحكمة العليا في إيطاليا قرارها بمسؤولية رجل اصطدم بامرأة مسنة عمرها 80 عاما بشكل غير متعمد، بينما كان يومئ بيديه في ساحة في منطقة بوغليا الجنوبية، عن إلحاق أضرار مدنية. جاء في منطوق حكم القضاة: «الشارع العام ليست غرفة معيشة. إن عادة مصاحبة محادثة بإيماءات، تعتبر جائزة بحق، إلا أنها تصبح غير مشروعة» في بعض السياقات.

في عام 2008، رفع أومبيرتو بوسي، المؤسس المفهم بالحيوية لحزب «رابطة الشمال» المحافظ، إصبعه الوسطى إبان ترديد النشيد الوطني لإيطاليا. غير أن ممثلي الادعاء العام في فينيسيا أكدوا أن الإيماءة، مع كونها بذيئة وسبب لغضب عارم واسع النطاق، لم تكن جريمة.

لطالما كانت الإيماءات جزءا من المشهد السياسي في إيطاليا.

يعتبر رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني من أبرز الشخصيات العامة التي تتبع أسلوب الإيماءات باليد. حينما حيَّا الرئيس أوباما وزوجته ميشيل في اجتماع بقادة دول مجموعة الـ20 في سبتمبر (أيلول) 2009، مد كلتا يديه، ووضع راحتي يديه أمامه، ثم قبض أصابعه، بينما ينظر إلى ميشيل أوباما من أعلى وأسفل - وهي إيماءة ربما تُفسر على أنها «تعبير عن الجاذبية الجنسية».

بالمقارنة، اشتهر جوليو أندريوتي، الديمقراطي المسيحي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء لسبع فترات، ويعتبر حتى الآن أقوى سياسي في حقبة ما بعد الحرب في إيطاليا، بإبقاء كلتا يديه مقبوضتين أمامه. كانت الإيماءة البارعة الصبورة تحمل نوعا من التأثيرات الرادعة، على نحو يشير إلى القوة الهائلة التي ربما يقوم بنشرها إذا اختار ذلك.

لقد حددت إيزابيلا بوجي أستاذة علم النفس بجامعة روما الثالثة وخبيرة الإيماءات، نحو 250 إيماءة استخدمها الإيطاليون في المحادثات اليومية. وقالت: «ثمة إيماءات تعبر عن تهديد أو رغبة أو إحباط أو عار أو تفاخر». الشيء الوحيد الذي يميزها عن لغة الإشارات هو أنها تستخدم بشكل فردي وتفتقر إلى صياغة كاملة، حسبما أضافت بوغي.

وبدرجة تفوق مجرد كونها تقليدا فولكلوريا جذابا، فإن للإيماءات تاريخا ثريا. تشير إحدى النظريات إلى أن الإيطاليين طوروها كشكل بديل من التواصل على مدى القرون التي عاشوا فيها تحت نير الاحتلال الأجنبي، من قبل النمسا وفرنسا وإسبانيا من القرن الرابع عشر حتى التاسع عشر، كوسيلة للتواصل على نحو يستعصي على الحكام المسيطرين فهمه.

وتتمثل نظرية أخرى، طورها آدم كيندون رئيس تحرير صحيفة «غيستشر»، في أنه في المدن المكتظة بالسكان مثل نابولي، تصبح الإيماءات وسيلة للمنافسة ولتعيين حدود أرض شخص ما في منطقة مزدحمة. وقالت بوغي شارحة النظرية: «لجذب الانتباه، اتجه الناس إلى الإيماءات واستخدموا أجسامهم بأكملها».

اكتشف أندريا دي جوريو قس وعالم آثار من القرن التاسع عشر، أوجه تشابه بين الإيماءات التي استخدمتها الشخصيات المرسومة على المزهريات اليونانية القديمة التي وجدت في منطقة نابولي، والإيماءات التي يستخدمها سكان نابولي المعاصرون. على مر القرون، تطورت اللغات، لكن ظلت الإيماءات كما هي. تقول بوجي: «تتغير الإيماءات بدرجة أقل من الكلمات».

دائما ما استحوذت فكرة الإيماءات على تفكير الفلاسفة. في كتاب «العلم الجديد»، أشار الفيلسوف الإيطالي، جيامباتيستا فيكو، الذي عمل بتدريس الخطابة من قبل في جامعة نابولي، إلى أن الإيماءة قد تكون باكورة أشكال اللغة.

وبحسب بعض الروايات، أصلح الفيلسوف لودفيغ ويتغينشتاين - أو على الأقل نقح - نظريته القائلة إن اللغة كانت تستخدم لإرساء الحقيقة أو للإعلام، بعد أن رد عالم الاقتصاد الإيطالي على نظريته بإيماءة واحدة، ألا وهي لمس ذقنه بأصابعه، والتي تعني «أنا ألقي بالا» للرفض التقليدي المعارض للسلطة.

مثل تلك اللفتة لا تعبر عن معلومة، بل تعارضها. «إنها ثورة ضد السلطة»، بحسب بوجي «وسيلة لاسترداد الشخص كرامته».

* خدمة «نيويورك تايمز»