لوري يوثق بلوحاته حياة أبناء الطبقة العاملة البريطانية ما بين الحربين

ابن الطبقة الوسطى ظل غريبا عنهم وعن مصانعهم وسحبها الدخانية

شكلت المداخن خلفية ثابتة للوحاته
TT

توفي الفنان لورانس ستيفن لوري عام 1976 وهذا يعني أنه شاهد خلال حياته، ليس فقط الأوضاع المزرية للأغلبية الساحقة من أبناء الطبقة العمالية في المدن الصناعية، خصوصا في شمال بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر، حيث ولد وكان يعيش، وإنما أيضا اندثار الصناعات التقليدية واختفاء المصانع، التي شكلت رموزا أساسية في لوحاته.

الملفت للنظر أن معرضه «لوري ورسومات الحياة العصرية» القائم حاليا في متحف «تيت بريتن» يقع على الضفة الشمالية لنهر التايمز ومقابله على الضفة الجنوبية تقع محطة باترسي لتوليد الطاقة إحدى معالم لندن الرئيسية والمميزة بمداخنها الأربعة (كأنها بيانو مقلوب) والتي بنيت في العشرينات من القرن الماضي وزودت لندن بالطاقة الكهربائية لمدة 50 عاما.

شكلت مداخن المصانع في لوحات لوري رموزا أساسية واتخذت موقعا بارزا فيها ليعكس الحياة المعيشية لأبناء الطبقة العاملة في بريطانيا، سواء أوضاعهم المزرية وأماكن معيشتهم الملوثة بسبب ما تقذفه هذه المصانع من سحب دخانية، وهي التي بسوادها وغيومها أعطت لندن اسم مدينة الضباب.

المصانع ومداخنها التي شكلت نقاط استدلال على طول نهر التايمز واستمرت حتى ستينات وسبعينات القرن الماضي اختفت تقريبا من بريطانيا. المصانع القديمة ومحطات التوليد الكهربائي تحولت إلى شقق فاخرة ومتاحف، كما حدث في المحطة الأخرى في وسط لندن والتي تحولت إلى متحف الفنون الحديثة (تيت مودرن)، وتضم واحدة من أكبر تشكيلات الفنون في أوروبا. محطة باترسي ستتحول قريبا إلى مجمع سكني فاخر مع فنادق ومتاحف فنية.

ولد الفنان لوري عام 1887 أي في أوج عز الثورة الصناعية في بريطانيا في مدينة سالفورد في مانشستر، وعاش في بيت كبير وفي منطقة استقطبت سكانا ينتمون إلى النخب السياسية والثقافية من أبناء الطبقة الوسطى، منهم سيلفيا بانكهيرست، التي درست الفنون مثله في كلية مانشستر للفنون وانخرطت في الحركة السياسية التي نادت بإعطاء المرأة حق التصويت.

وعلى الرغم من انتمائه لهذه الفئة الاجتماعية (والده عمل سمسارا في وكالة للعقارات) وعمل هو أيضا جابي لإيجارات البيوت، إضافة إلى ممارسته للفنون، المشهد الصناعي وأوضاع الناس الاجتماعية في تلك المناطق الصناعية استمالته وبدأ يوثق بأعماله الفنية ظروفهم خصوصا ما بين الحربين في بريطانيا.

«رأيت المشهد الصناعي».. قال الفنان لوري، مضيفا: «لقد تأثرت به كثيرا، وحاولت نقل هذا التأثير على الكنفا. لم أتمكن من وصفه، لكنني كنت واثقا من التعبير عنه من خلال رسمي». وخلال حياته الفنية التي استمرت 40 عاما نقل لوري، كما يقول القائمون على المعرض بأنه «الواقع الصناعي والمعيشي للطبقة العاملة في تلك الفترة في مانشستر وسالفورد». لكن تركيزه على هذا الجانب والأسلوب في أعماله حدد كثيرا من مجاله الفني. وهذا الرأي يتفق حوله كثير من النقاد، سواء القائمون على هذا المعرض وكذلك أشد الأصوات انتقادا له مثل الشهير بريان سويل، الذي كتب مقالا تحت عنوان «وهم لوري» يقول بأن الفنان «لم يكن الوحيد»، كما يدعي القائمون على المعرض، الذي وثق حياة الطبقة العاملة في تلك الفترة، مضيفا أن أعماله فيها إعادة للموضوع والمشهد. ويعتقد سويل بأن لوري أعطي أكثر من حقه لأنه لم يكن «فنانا عظيما» كما يعتقد بعض النقاد مثل الكاتب الشهير جون بيرجر الذي اعتبر أنه وثق لتدهور «الموروث الصناعي في مقاطعة لانكشاير خلال فترة مابين الحربين، وكذلك للكبت الذي واجهه العمال في حياتهم».

القيمة الفنية لأعماله قد تبقى محل نقاش وحوار بين النقاد، لكن هناك شبه إجماع بأن أعماله تحددت كثيرا بهذا الموضوع. «كنت سعيدا جدا في فترة العشرينات». يقول لوري، مبررا التصاق أعماله الفنية بهذه الفترة «ولم يكن هناك سبب بأن أتخلى في أعمالي عن تلك الفترة». لقد كرر لوري نفسه في عدد كبير من اللوحات، وهذا كان واضحا وجليا في المعرض الذي تضمن أكثر من 100 لوحة. إلا أن الإعادة ربما كانت وراء صقل بعضها في فترات لاحقة من مشواره الفني، إلى درجة أن بعض المواضيع التي تناولها لاحقا، مثل موضوع إصابات الحرب في لوحة «المقعدون» والتي رسمها عام 1949 لشوارع المدن الشمالية في 1919، اعتبرت «عديمة الذوق» لأنه صور المقعدين بشكل كاريكاتوري. للأسف لم يحاول القائمون على المعرض تقديم أعماله بتسلسل تاريخي حتى يتضح تطوره الفني.

توثيقه للمشهد الصناعي في فترة الكساد الكبير في العشرينات وثلاثينات القرن الماضي جعلت منه فنانا منحازا سياسيا للطبقة العمالية بنظر الآخرين، وذلك بسبب التناحر السياسي العالي الذي شهدته تلك الفترة، من صعود للنازية والبلورة الأيديولوجية الفاصلة بين اليمين واليسار. تصويره للمشهد كان كافيا لاحتضانه بأثر رجعي من قبل كثير من المعلقين والسياسيين. صحيفة الغارديان التي كانت تصدر في مانشستر والمعروفة بميولها اليسارية عرضت عليه أن يعمل لديها ناقدا فنيا إلا أنه رفض العرض. وحرص القائمون على المعرض أن يتضمن مقالات وصورا نشرتها صحيفة الغارديان عن تلك الفترة وضعت جنبا إلى جنب مع أعماله تصور الحياة العمالية في تلك الفترة. كما وضعت صورا أيضا للزعيم العمالي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق هارولد ويلسون في مكتبه مع لوحة لوري معلقة على جدار مكتبه. الانحياز السياسي لبعض المعلقين قد يكون وراء شهرة الفنان، وليس فقط قيمته الفنية.

على الرغم من أن عمله جابيا إيجارات أعطاه فرصة التعرف عن كثب على حياة أبناء الطبقة العاملة اليومية والصعوبات التي كان يواجهها هؤلاء من فقر وحرمان في الأحياء الشعبية وظروفهم المعيشية المزرية في أصعب الفترات التي واجهتها بريطانيا اقتصاديا. وعلى الرغم من ذلك لم يكن لوري «انفعالي» أو «عاطفي» تجاه شخصياته. «لم يدع أبدا أنه كان يرتبط بأي علاقات رفاقية كاذبة مع أبناء الطبقة العاملة. ظل دخيلا عليهم». الشوارع في أعماله كئيبة لكنها «عظيمة» كما قال. «كانت موحية لي بجمالها». بلا شك تبدو اللوحات على الرغم من أن جميعها تحتوي على خلفيات تحتلها المداخن والسحب الدخانية إلا أنها تبدو جميلة ومنسقة، أما الشخصيات في لوحاته فلا ملامح لها. ولا تعرف إذا كانت كئيبة أو فرحة، وبهذا فإن لوري لم يقحم نفسه في تفاصيل حياة أبناء الطبقة العاملة. مع أنه دخل بيوتهم وتعرف على تفاصيل حياتهم اليومية وفقرهم إلا أنه لم يحاول أن يرسم تفاصيل وملامح وجوههم. «الصورة لا تنتمي إلى مكان محدد. عندما أبدأ بالرسم على الكنفا البيضاء، لم يكن لدي أي فكرة كيف سينتهي الحال بالمشهد الصناعي الذي أريد تصويره. لكن عندما أضع الكنيسة في المكان والمدخنة قريبا من وسط الصورة، يتضح لي المشهد الذي يأخذ شكله في نهاية المطاف وكما أريد».

معرض «لوري ورسومات الحياة العصرية» يستضيفه متحف تيت بريتن حتى 20 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.