التنجيد.. مهنة في طريقها إلى الاندثار

الإسفنج اكتسح أسواقها بعدما شهدت أياما «ذهبية» في الستينات بلبنان

لم يبق من محلات التنجيد في صيدا جنوب لبنان سوى 5 محال بعدما استغنى المواطنون تدريجيا عن الأغطية والفرش الطبيعية والصحية
TT

النوم على القطن والصوف يفيد الجسم وينصح به لمن يعاني من «الديسك» أو «التكلس»، هي النصيحة الطبية التقليدية التي لا يزال معظم الزبائن الذين يقصدون محلات التنجيد في سوق البازركان في صيدا جنوب لبنان، متمسكين بها. فهذه السوق التي اشتهرت بمحلات التنجيد لم يبق فيها سوى 5 محال، بعدما استغنى المواطنون تدريجيا عن الأغطية والفرش الطبيعية والصحية وتوجهوا نحو كل ما هو صناعي.

هذا الواقع ينقله إلينا اللبناني حسن زبيب الذي ينكب على عمله بشغف وحماسة، حاملا الإبرة والخيط بيد وقضيب الخيزران بيده الثانية لينفش القطن والصوف، تمهيدا لصناعة اللحاف والوسادات في محل آل طرابلسي، الذي يعمل فيه منذ زمن.

ويقول زبيب بحسرة عن مهنة أصبحت شبه منقرضة، في حديث للـ«الشرق الأوسط»: «لقد غزت اللحف والوسادات الجاهزة والمستوردة كل البيوت، ولم يعد الجيل الجديد يهتم على ماذا سينام أو ماذا سيضع تحت رأسه، علما أن هذا النوع من الإنتاج له أضرار كثيرة، فهو يؤذي الظهر والرقبة، وتعرض الشخص لآلامها».

ويعيدنا زبيب في ذكرياته مع المهنة أربعين عاما إلى الوراء مشيرا إلى أنه توارثها أبا عن جد وتعلمها على يد والده حين كانوا يسكنون في بيروت ولا يزال يمتهنها حتى اليوم.

«لم نكن نهدأ أو نتوقف عن العمل. كان الطلب كبيرا عكس ما هو عليه اليوم بحيث أصبح الطلب لا يتعدى لحافا واحدا في الأسبوع» هكذا يختصر واقع حال المهنة اليوم تحسرا على أيام العز، ومشيرا إلى أنه أصبح من الصعب تأمين لقمة العيش من هذه المهنة التي لا يشجع أولاده على اكتسابها لأنها أصبحت بلا مستقبل، بحسب تعبيره.

وفي نظرة على أيام العز في المهنة يوضح زبيب: «مع بداية الموسم في شهر نوفمبر (تشرين الأول) من كل عام كنت أزور بعض الزبائن في منازلهم لأنجد لهم الفرش واللحف، فيما كان البعض الآخر يأتي إلى المحل للتوصية على طلباته».

ويؤكد زبيب أن أهمية «المنجد» لم تكن تقل أهمية عن رئيس البلدية بلدية بالنسبة إلى المواطن. كما أن جهاز العروس كان يعتمد على ما تنتجه يداه. مستذكرا كيف كان والده يمضي أحيانا أكثر من أسبوع في منزل أهل العروس ليصنع أفضل ما لديه في تجهيز فرشات العروسين وكيف كانوا يستقبلونه بالزغاريد والأغاني التراثية وتوزيع الحلوى، وهكذا دواليك متنقلا بين بلدة وأخرى.

وعن طريقة العمل يخبرنا زبيب: «هناك طريقتان إما أن أندف القطن على القوس (قضيبا مصنوع من الخيزران)، وإما أن أستعمل الموتور لندف القطن حتى ينعم، لأنه يكون متلاصقا بعضه ببعض، بعد ذلك أضع القطن أو الصوف بحسب الطلب في القماش المفصل والمحاك مسبقا». وبعد الانتهاء من تعبئته يبدأ زبيب بتخييطه بالإبرة والخيط على الطريقة المعروفة للتنجيد، ليصبح بعدها جاهزا للتسليم.

ساعات طويلة يمضيها زبيب في مهنته التي يقول عنها: «تأخذ مني أكثر مما تعطيني». ويتابع: «قديما كنا نأخذ 10 ليرات لبنانية على اللحاف والفراش واليوم أصبح تنجيد اللحاف الصوف الكبير يكلف 85 ألف ليرة لبنانية (نحو 58 دولارا) والوسادة 10 آلاف ليرة لبنانية (نحو 7 دولارات)، بعدما كانت تكلفة تنجيده في فترة الستينات ليرة ذهب، فيما لم تعد اليوم تطعم خبزا، مؤكدا أنه لا ينصح أحدا بمزاولتها. وإذ يوضح أن زبائنه يقصدونه من الريف والبلدات البعيدة ومن صيدا والبلدات المحيطة، يرى أنه حتى اليوم لم تختلف نوعية القماش التي تستعمل في تنجيد اللحف والفرشات، وهي القماش بألوان موحدة أو ذات زخرفات ونقاشات مختلفة، وبقيت أنواع القطن هي نفسها وهي القطن البلدي والقطن الممشط وصوف الجز «والذي اختلف هو تلك اللمسة الفنية التي كانت تزين اللحاف».

فقد كان المنجدون يتفننون ويطرزون عليه عددا كبيرا من الرسومات والأشكال الهندسية التي كانوا يقدمونها للزبون، منها: «النجمة، ودوار الشمس، وجلد السمك، والعقرب، وطيور الحب، وثمانية قلوب، وقطع البقلاوة وورق الصنوبر، وغيرها من الأشكال التي كانت مرغوبة لدى الزبائن». والتنجيد: «هو فن قائم بحد ذاته» وحرفة يدوية عمرها مئات السنين، كانت مزدهرة في ستينات القرن الماضي، ومقتصرة على الأغنياء فقط. وترتكز هذه الحرفة على الصوف والقطن والقماش والخيط المصنوع من القطن الصافي. أما القوس فهو الأداة الأساسية في الحرفة إضافة إلى ما يعرف بـ«المدقة» و«الكشتبان» و«الإبرة» على مختلف قياساتها والمطرق (العصا) و«شمع عسلي»، وحديثا دخل على هذه المهنة «الإسفنج» و«الدكرون»، وهذه المواد «تساعدنا في صنع (اللحاف) والوسائد و(المد العربي) وفرشات الأسرة»، وهي تحتاج إلى خفة يد وذوق بحسب ما يشير زبيب.

وأشار إلى أن هذه المهنة أصبحت اليوم آيلة للاندثار بعدما تراجعت بنسبة 90 في المائة، نتيجة وفاة كثير من أصحابها وتركها من قبل العدد الآخر، إضافة إلى ظهور الإسفنج الذي اكتسح السوق واحتل مكان الصوف والقطن وذلك لسهولة تنجيده، إضافة إلى المردود المادي القليل الذي تعود به إلى الحرفي، فضلا عن غياب الاهتمام الرسمي بها. ووفق زبيب فالفارق بين الصوف والإسفنج كبير، فالصوف مادة عزل حراري طبيعية، في حين أن الصناعات الحديثة تعتمد على البتروكيميائيات وهذا غير صحي كليا. وحول كيفية تأمين الصوف يجيب: «في الماضي كان يتم استيرادها من البلدان المجاورة، لكن اليوم نقوم بتأمينه من أصحاب المواشي الذين يعمدون إلى بيع صوفها».

ويختم زبيب مبديا اعتقاده بأن لا أحد حتى اليوم رغم كل ما يقال يستطيع الاستغناء عن اللحف والمخدة والفرشاة المصنوعة من الصوف.