رزق الله على أيام زمان

صلاح تيزاني

TT

شهر رمضان أيام زمان يختلف تماما عن الذي نعيشه اليوم، فقد كنا نتهيأ له قبل وصوله بعشرة أيام، على الأقل. ما زلت أتذكر والدتي «أم صلاح» التي كانت لا توفّر يوما من تلك الأيام إلا وتستعد فيه لهذا الشهر الفضيل، فتشتري الأرز والحبوب والخروب والتمر والسكر ليكون كل شيء جاهزا من اليوم الأول له.

وكنا قبل وصوله بيومين (كانا بمثابة عطلة رسمية) نتحضّر كعائلة مع أقاربنا للذهاب إلى منطقة (رأس النهر) في طرابلس لنفترش الأرض بين الشجر والمياه ونمضي يوما كاملا مع بعضنا البعض فيما يسمونه «سيبانة رمضان». هذه الأيام التي لا يمكنني أن أنساها لما تحمل من ذكريات لطيفة وجميلة، كنا نلعب ونتسامر ونتناول أشهى الأطباق، لأن رمضان على الباب، وعلينا الالتزام بالصوم فيه كما يجب.

ما أود قوله: إن مائدة رمضان في تلك الأيام، أي ما بين الأربعينات والخمسينات، لم تكن ترتكز على أطباق اللحم والدجاج إلا نادرا. كانت والدتي تتفنن بصنع المحاشي كالكوسة والملفوف والباذنجان وكان للحلويات طعم مغاير تصنعه النساء كلّ في بيتها، ومن ثم توزّع كمية قليلة منها على الجيران. فكان البيت يمتلئ من أصناف الحلويات وأحيانا الطبخات اللذيذة، لأن هذا الشهر مطلوب فيه المشاركة وتقديم المساعدة والرأفة بين الناس. فأنا لا أحب ما ينتهجه البعض في رمضان، هذه الأيام من مدّ موائد فخمة أو السهر في الخيم الرمضانية وما شابهها. هذا الشهر هو شهر التقوى والصلاة والفضائل وحب الآخر.

أكثر ما أتذكره أيضا هو صوت المسحراتي عند الفجر. أول مرة سمعته خفت ورحت أرتجف لقوة صوته ودقات الطبل المرتفعة التي كانت ترافقه في جولاته في أحياء المدينة. عندها اقتربت مني «أم صلاح» وقالت لي: «لا تخف يا ابني إنه المسحراتي الذي يوقظنا للقيام بواجب الصلاة عند الفجر». وفي اليوم الثاني علمت أن والدي نزل إلى المسحراتي وكنا نسكن في منطقة (التربيعة) الطرابلسية وطلب منه، عندما ينادي النائمين أن يذكرني بالاسم. وهكذا حصل فراح ينادي: «اصحى يا صلاح بن أمين التيزاني... إلخ» ففرحت وصرت أنتظر مجيئه كل فجر بفرح.

ومن مائدة رمضان أتذكر الحلويات التي كانت تصنعها والدتي ولا سيما (أصابع زينب) وهي نوع من العوامات المغطسّة بالقطر وكذلك القشطلية. ولكن كنا نشكر ربنا على كل ما نأكله ونشربه ولا نتباهى كما يفعل البعض اليوم بتناول الكنافة بالجبن حتى الانتفاخ.

ولا بد أن أذكر قناديل الغاز (اللوكس) التي كان يحملها الناس في جولاتهم في الليل لأن الكهرباء كانت غير موجودة. أما في المنزل فكانت والدتي توزّع في أرجاء المنزل صحون الحديد التي تحمل الفتيل المضاء بالزيت فكان منظره جميلا يزوّدنا بالهدوء والسكينة.. وعندما بدأت في إعالة عائلتي المؤلّفة من ست فتيات وشابين عملت في النجارة، ولأن الفن كان هاجسي فكنت في شهر رمضان أثبّت مسرحا خشبيا أحمله معي من الورشة على طريق منزلنا مساء كلّ يوم ويأتي أحدهم لتلاوة صلوات وأناشيد وتواشيح. وكنت أختتم هذا العرض بفصل كوميدي ليذهب الناس إلى بيوتهم وهم مزوّدون بالتقوى والابتسامة معا.

في النهاية يمكن القول: إنه لا مجال للمقارنة بين رمضان الماضي واليوم إذ كان له وقعه وتقاليده اللذان يصبّان في خانة الإيمان والتقوى. وعندما أنظر اليوم إلى الفولكلور الذي يتبعه الناس فيه أحزن وأقول: «رزق الله على أيام زمان وعلى أيام الخرنوب والتمر الهندي وزياراتنا اليومية لكل فرد في العائلة داعين له بالصوم المبارك وبالصحة».

* ممثل كوميدي لبناني (شهير باسم أبو سليم)