«رمضان».. أنت في شهر ليس كسائر الشهور

د. عبد الهادي التازي

TT

إلى أين أنتم قاصدون؟ يجب أن تغيروا طريق حياتكم، تناول الطعام لا يبقى كما هو معتادكم في الصباح والظهر والمساء... يجب أن يتغير، وأن يكون عندك وعند جيرانك وأقاربك في وقت محدد تنتظره كما ينتظره الآخرون... اهتماماتك ينبغي أن تتحول هي الأخرى إلى اهتمامات أخرى! كنت تطالع نوعا من الكتب تتناهى إليك عن طريق الصدفة. لكنك اليوم تبحث عن نوع آخر من المطالعات والقراءات... تبحث عما قاله الناس عن شهر الصيام وما كانوا يقومون به من أعمال، وكيف أنهم كانوا يحولون وجه نهارهم إلى ليال كما يحولون لياليهم إلى أيام مضيئة...

أنت في شهر رمضان! يغشاك زوار لا يقع في حسابك أنهم يزورونك، ويكون عليك أن تتفقد متعلقات لك لم يدر بخلدك أنك ستتفقدها في هذه الفترة من فترات حياتك، ذاك هو رمضان! كان يجمعنا بآبائنا وأمهاتنا، بإخواننا وأخواتنا، بأصدقائنا ومعارفنا... لا ندري كيف أن هذه الموائد، يتسع صدرها لكل وارد، ولا نملك إلا أن نردد رمضان كريم! كنا نصحب آباءنا إلى المساجد... لا نسمع طوال اليوم والليل إلا عما قاله الله، وما ردده رسول الله... كنا نتهادى خبراتنا مع الجيران، تكثر قدورنا التي تروح إلى من قرب أو حتى من بعد من الأحباب.

وكان من أجمل وأبدع وأروع ما في رمضان أنه لا يخضع لتوقيت شمسي فهو لا يحبسك مع شهر مارس (آذار)، ولا مع شهر ساخن ولا مع فصل ربيع ولا خريف، ولكنه شهر يتنقل بين الفصول والمواسم فهو مرة يزورك وأنت في عز الحر، وتارة يحل في بيتك وأنت في حالة قر، وأحيانا يتمدد مقامه بين ظهرانيك ساعات وساعات وأحيانا تختصر هذه الساعات الطوال إلى بضع ساعات.

من حسن حظي أنني عشته لمرات كثيرة على أشكال كثيرة، عشته أول مرة وجدتي أم الغيث تساعدني على الأكل سرا وسط النهار وتوهمني أنها تخيط النصف الأول من النهار بنصفه الثاني. تدربنا على هذا النوع من العبادة، وأمسينا نقول لرفاقنا، إننا نصوم اليوم من أذان الصبح إلى أذان المغرب! عجيب أمر رمضان... كنا ونحن طلبة بجامعة القرويين، في عنفوان الشباب، كنا نعطل الشهر كله على نحو ما نعطل أربعين السمائم في الصيف ومع ذلك كنا نختلف على دروس نتلقى علوما أخرى عبر العلوم التي كنا نتعاطاها في معتاد الأيام.

كانت بعض الحرف تعرف لها رواجا أكثر طوال شهر الصيام، بينما تختفي عنا في أيام غير أيام الصيام، أنواع من الحلوى لها مواسم خاصة طوال فترات الصوم لكنها في غير أيام الصيام محتجبة... الغياط، النفار، دقاق السحر... عادات راحت أو تكاد.

كان ظهور الفتاة أيام رمضان محدودا إن لم يكن معدوما لماذا؟ لأن المرأة تعني الإثارة، والإثارة غير مرغوب فيها في هذا الشهر الذي يعتبر منسكا من المناسك.

عشت رمضانين لي وراء القضبان أيام النضال ضد الاستعمار فما خطر ببالي إطلاقا أن أترك الصوم رغم شظف العيش الذي كنا نعانيه ورمضان يفرض علينا وجوده ولو أنه لا يوجد بيننا وبينه رقيب... الخوف من انتهاك حرماته يجعلنا نعيش في خوف من التفكير في تجاوز طقوسه وعاداته...

كنا في أثناء السجن نصل إلى حد الانهيار من الجوع والعطش، ولكن أحدا منا لا يفكر في الإقدام على ما يخالف طقوس سيدنا رمضان! رغم مصادفته لأيام بلغت الحر الشديد في مدينة سطات التي نعرف عن مناخها الرهيب!! رمضان هو الشهر الذي كان التفكير في تشريعه يتجاوزني ويجعلني أكثر إيمانا واقتناعا بأنه الشهر الكامل وليس يوما أو يومين – الذي كان ضروريا ليعلمنا الانضباط والسلوك والتفكير في الآخرين الذين لا يجدون.

كان من الذكريات التي تربطني بهذا الشهر العظيم امتلاكي لمصحف أحتفظ به إلى اليوم منذ حجتي الأولى عام 1378هـ/1959م، وهو أصلا من إصدار السيد محمد المهدي الحبابي الكتبي بشارع السبطريين من فاس. وكان له السبق – من دون منازع – في إصدار هذا المصحف الذي خطه الوراق الشيخ أحمد بن الحسين زويتن وطبع على الحجر بالقاهرة في شعبان 1349= يناير (كانون الثاني) 1931.

لازمني هذا المصحف كل رمضان سواء أكنت بالمغرب أم خارج المغرب، في القارات التي كنت أرحل إليها... أعلق على الآيات التي تستوقفني، أتتبع الحكم التي تأتي ضمن الآيات... أتتبع التعابير التي ترد في التنزيل، المحطات التاريخية التي أروم توثيقها، بل وأكتب على هامش ورقاتها بعض مذكراتي الشخصية مما أعيش فيه وقتها.

هذا المصحف أعتبره من مدخراتي لأنه كلما فتحته عند كل شهر رمضان عادت بي هوامشه إلى ذكريات خلت.. وهو المصحف الذي أسعد بقربه اليوم على فراش نومي.

يصحبني إلى جانب هذا المصحف في هذا الشهر كتابان اثنان: الأول: مقدمة ابن خلدون بروائعها... الثاني: ديوان المتنبي بإبداعاته...

كل تلك الأعوام الطوال التي عشتها مع رمضان كانت تزيد من تعلقي به والحنين إليه بالرغم مما قد يصحبه أحيانا من تداعيات بسبب متاعب التسعين ولا أقول الثمانين.

جاءني ذات يوم وأنا سفير للمغرب في بغداد زميلي العلامة الشاعر خليل الله خليلي سفير أفغانستان في بغداد، جاءني ليهنئني بشهر رمضان – وكانت عربيته مكسرة! عوض أن يقول: (رمضان مبارك) قال لي مرضان مبارك! قلت له: إنه رمضان وليس مرضان وفسرت له الفرق بين الكلمتين فأجابني: إنه بالفعل مرضان! الأول قبل أذان المغرب، ويتمثل في الجوع، والثاني بعد المغرب ويتمثل في التخمة التي تعتري الصائمين والصائمات.

لكن ما أشعر به هذه السنة أنني أحيا هذا اليوم الأول من هذا الشهر وأنا إلى جانب من بقي من أحبابي: أبنائي وحفدتي وأنباطي، أتعرفون معنى النبيط بالمغرب؟ إنه حفيد ابنتك أو ابنك!! سأتمثل بقول صديقي الراحل النجفي: عمري بروحي، لا بعد سنيـن ولأسخرن غدا من التسعين! عمري إلى التسعين يمضي مسرعا والروح ثابتة على العشرين!

* عضو مجمع اللغة العربية في مصر

* عضو مؤسس لأكاديمية المملكة المغربية وسفير سابق