محمد يقطين.. رحلة ممثل مغمور من لبنان إلى هوليوود

من أسرار تاريخ غير مكتوب لفنان ناجح

لقطة من فيلم «طرزان الشجاع» ويتوقع أن يكون يقطين ظاهرا على اليسار
TT

لم يعد جديدا، ولا غريبا، أن نجد أسماء ممثلين عرب، أمثال خالد أبو النجا أو عمرو واكد أو هيام عباس أو علي سليمان، في أفلام أجنبية. في عالم بلا حدود، كالذي نعيشه اليوم، لم يعد الأمر يستدعي الغرابة لأنه بات يتكرر، ولأن الحاجة لممثلين مواطنين ينتمون إلى طبيعة المكان وحقيقة الشخصيات أصبحت واضحة وضرورية. لقد انتهت الأفلام التي كان الممثلون الأميركيون يؤدون فيها الأدوار جميعا، من الهندي إلى الروسي، ومن الصيني إلى العربي، مرورا بالفرنسي حينا، والإيطالي أو الإسباني في أحيان أخرى.

هذا السائد الذي مضى كانت له ضرورياته؛ إذ كانت الثقافات منغلقة، والإنتاجات، في غالبها، سريعة ورخيصة، والوقت لا يسمح بالتعرف على الآخر.. يكفي بعض الماكياج وقليل من اللكنة وحفنة من الأسماء الغريبة تدفع صوب ممثلين مختلفين لا يستطيعون أن يقولوا لا للاستوديو في عصر «نظام النجوم» وإلا انتهت عقودهم للأبد.

حتى في السبعينات، وعندما شق الممثل عمر الشريف طريقه إلى الشهرة العالمية بفضل دوره المساند لدور بيتر أوتول في «لورنس العرب»، لم تكن هوليوود تعرف ماذا تفعل بممثل غير أميركي سوى منحه أدوارا غير أميركية. لذلك رأينا وضمن سعي هوليوود للاستفادة من التفاف الجمهور الغربي حوله، تسند إليه أدوارا روسية «دكتور زيفاغو» ومغولي «جنكيز خان» وإسباني «أكثر من معجزة» وأرجنتيني (دور تشي غيفارا في الفيلم الذي ألـب عليه النقد أكثر من سواه «تشي»). في النهاية، وبعد أن تفتقد المبررات، تخلـت هوليوود عن عمر الشريف الذي، من حسن حظـه، كان حقق ما يكفي من مكانة دولية لدرجة أنه بقي نجما في بقاع أخرى من العالم.

مواطن من قب إلياس لكن كثيرين في ذلك الحين اعتقدوا أن عمر الشريف هو أول ممثل عربي «يغزو هوليوود»، وهو أمر ليس صحيحا على الإطلاق؛ إذ سبق لأسماء (كلها كانت مجهولة آنذاك وبقيت مجهولة فيما بعد) عربية أن اعتلت الشاشات الأميركية وفي مناسبات صعب إحصاؤها اليوم.

من ممثل خليجي (سعودي أو إماراتي) ظهر باسم عبد الله في فيلم من العشرية الثانية من القرن العشرين، إلى لاعب نمر مسرحية مغربي لم يحفظ التاريخ اسمه لكنه انتقل للعمل مع د. و. غريفيث بعدما داهم البوليس مسرحه نحو 1903 بتهمة ممارسة الشعوذة. ومن العديد من الأشخاص الذين لم يتم ذكر أسمائهم في الأفلام التي مثـلوا فيها، وذلك في تلك السنوات الأولى من القرن العشرين.

على أن الممثل العربي المحترف الأول كان عليه أن ينتظر حتى عام 1916 قبل أن يلعب دوره الأول على الشاشة. وهو سر من أسرار الحياة السينمائية التي كلما بحث فيها الناقد اكتشف جديدا أهمله التاريخ المكتوب.

اسمه فرانك لاكتين، لكن ذلك هو الاسم السهل والمناسب الذي إما منحه لنفسه أو منح له عوض اسمه الحقيقي وهو محمد يقطين. ولد في بلدة قب إلياس في لبنان في التاسع والعشرين من شهر أغسطس (آب) سنة 1897 (أي بعد عامين من قيام الأخوين لوميير بعرض أفلامهما الأولى في باريس) ثم رحل مع والدته (وربما شقيق آخر) صبيا، حيث حط في شيكاغو أولا، ثم انتقل والأهل إلى هوليوود في نحو عام 1912، أي حينما كان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره.

ويظهر الفيلم الأول له وعنوانه «شر أصفر» (1916) أن الاستعانة به تمـت ضمن التقليد المتـبع آنذاك، وهي منح أدوار الشخصيات غير الأميركية لمن حضر؛ فهو صيني شرير في هذا الفيلم، ثم مكسيكي في «السهم المنتقم» (1922)، ثم تركي في «الباب الأربعون» (1924)، وإيطالي في «الرامي الأخضر»، كما هو في عدد كبير من أفلام الوسترن الصامتة والناطقة لاعبا دور هندي أحمر، كما لعب دور الهندي (من الهند ذاتها) أكثر من مرة، ودور العربي كذلك في بضعة أفلام منها «منزل بلا مفتاح» (1926) و«متمردون» (1930).

معظم أدواره كانت صغيرة وأحيانا صغيرة جدا (من لقطتين إلى ثلاثة)، وفي العديد من الأحيان لم يتم ذكر اسمه في بطاقات الأفلام على الشاشة. إنه في عشرات من الأفلام الأخرى من دون ذكر اسمه كما الحال في «فتاة الميناء» (1930) و«تحت قمر تكساس» (1930) و«وردة رانشو» (1936) و«النساء متاعب» (1937) و«مدينة مفقودة في الغابة» (1946) ثم «حتى نهاية العالم» (1948).

نزاع سياسي ما يبدو مؤكدا لي هو أنه بدا واعدا في نطاق الأدوار المساندة، بل هو تسلم دورا رئيسيا في «صقر الهضاب» (وسترن من عام 1929) من قبل أن تتراجع أسهمه عندما نطقت السينما، والاحتمال الوارد هنا أيضا هو أنه ربما لم يتقن الإنجليزية جيدا، بحيث تؤول إليه الأدوار الرئيسية حتى في نطاق الشخصيات المساندة. هذا ما منعه من التبلور أو التقدم، ووجهه لأدوار إذا ما تكلم فيها فإن كلامه لا يزيد على كلمتين أو ثلاث. وهذا يتضح في فيلم من سلسلة أفلام «طرازان» هو «طرازان الشجاع» الذي قاد بطولته باستر كراب. فجأة بعد نحو ثلث ساعة من أحداث الفيلم التي تقع في الغابة الأفريقية يصرخ أحد الممثلين «عبدل»، فإذا بعبدل رجل طويل القامة عريض الكتفين يحمل سوطا يبدأ ضرب أظهر الأفريقيين السود به.

رصيد محمد يقطين من الأفلام السينمائية هو 194 فيلما، بالإضافة إلى إحدى عشرة حلقة تلفزيونية في الخمسينات. وإذ بدأ مهنة التمثيل سنة 1916 كما تقدم، فإنه عاش لها وخلالها حتى عام 1965 عندما لعب شخصية واحد من الناس في نهاية فيلم «ذا باونتي هنتر». ومات بعد ثلاث سنوات من هذا الفيلم.

في عام 2006 توجـهت إلى بلدة قب إلياس وبحثت لدى المختار عن وثائق حول عائلة يقطين. هذا بعدما اكتشفت أن العائلة الكريمة تشكـل نسبة كبيرة من أبناء تلك البلدة. فتح المختار دفترا كبيرا تكاد أوراقه تتمزق بمجرد لمسها، وعاد إلى سنة 1903 ليجد اسمه واسم والدته في ذلك السجل. المنزل الذي يقال إنهما عاشا فيه يقع في مقابل مسجد البلدة. لكن السؤال الذي لم أجد عليه جوابا مؤكدا هو: ما الدافع الذي وقف وراء هجرة أم شابة مع ابنها إلى أميركا؟ كثر المقولون هنا، لكن أكثر الروايات ترددا من قبل أبناء جيل سابق سمعوا الحكايات ترد لهم من جيل أسبق، هو أن البلدة كانت مسرح نزاع سياسي بين عائلتين كبيرتين فيها: آل يقطين الذين كانوا مع الوجود العثماني، وعائلة أخرى (تباينت الأسماء واختلفت)، وأن والد محمد قتل في واحد من هذه النزاعات، وبدا أن العائلة باتت في خطر فنزحت.

سواء أكانت هذه هي الحكاية، أم أن هناك مثيلا لها، فإن محمد يقطين، المكنى لاحقا بفرانك لاكتين، دخل هوليوود رائدا وبطلا في عالمه الخاص. وبقدر ما هو مؤسف أنه لم يحقق نجاحا نوعيا، بقدر ما هو مؤسف أن العالم العربي لا يعرفه.