«ليلة صيف رحبانية» تشعل ثورة اللبنانيين

غدي الرحباني: قدرنا أن نحمل المشعل ونكمل المشوار

TT

حماسة الآتين إلى الحفل الرحباني، كانت كبيرة. بعضهم يجيء إلى «مهرجانات بيبلوس» للمرة الأولى. الرحابنة يستحقون المشوار، والتبكير بالوصول له دلالته، حتى رئيس الجمهورية ميشال سليمان وعقيلته والوزراء الذين رافقوه، جاءوا دون تأخير، هذه المرة. الإرث الرحباني له في نفوس اللبنانيين مكانة لا تضاهي، والورثة يعرفون ذلك، ويستفيدون من مخزون بات جزءا من الضمير الوطني.

مقطوعة موسيقية من فيلم «سفر برلك» الشهير، كانت البدء، قبل أن يصعد غدي الرحباني إلى المسرح، ويقول كلمته حول اختيار الأغنيات التي تحاول أن تختصر مشوارا رحبانيا عمره سبعون سنة، منذ كان الأخوان توأمين فنيين، في شراكة لا تنفصم عراها، مروا بثلاث وعشرين سنة عمل خلالها منصور وحيدا أو رفقة أولاده الثلاثة، دون نسيان الأخ الأصغر إلياس، ومن ثم الجيل الثاني كله. غدي الرحباني لم ينس أحدا وتحديدا فيروز، الغائب الأكبر عن الحفل.

الأوركسترا السيمفونية الوطنية الأوكرانية المؤلفة مما يقارب ثمانين عازفا، بقيادة المايسترو فلاديمير سيرنكو، ملأت المسرح. عشرون منشدا ومنشدة شكلوا الكورس، وعلى البيانو عزف أسامة الرحباني الذي برفقة أخيه غدي، أعدا وأنتجا ووزعا أغنيات الحفل، بإشراف أخيهما مروان.

توالى على المسرح غناء كل من غسان صليبا، رونزا، هبة طوجي، سيمون عبيد، إيلي خياط ونادر خوري. أسماء ارتبطت بالمسرح الرحباني وأصوات لها ميزتها الأدائية، ومكانتها في قلوب الناس.

غسان صليبا افتتح الغناء بـ«حي الزوار» مرحبا بالضيوف، لتتبعه رونزا بأغنية «بكرا إنت وجايي»، ومن ثم سيمون عبيد بـ«نسم علينا الهوا» التي لاقت شغفا لدى الجمهور. فالهواء كان ينسم على مرفأ جبيل قويا، يداعب الميكروفونات، ويؤثر في نوعية الصوت، لكنه كان منعشا لحضور، يستمتع بعذب الموسيقى من مدرجاته الغاطسة في الماء، بينما ينكشف أمامه البحر والساحل اللبناني مضاء عن يمينه، وجبيل بمبانيها القديمة المتلألئة عن يساره.

أطلت هبة طوجي لتغني للمرة الأولى «كل يوم بقلك صباح الخير». هذه الأغنية التي كتبها منصور الرحباني، قبل وفاته ولحنها ابنه أسامة.

كان ثمة تركيز، لا سيما في الجزء الأول من الحفل على أغنيات منصور وأولاده، خاصة تلك التي كان الجمهور قد عرفها من خلال المسرحيات، من «صيف 840» و«المتنبي» إلى «دونكيشوت» و«سقراط» و«جبران». بعض هذه الأغنيات باتت شديدة الشهرة، يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، مثل «وطني بيعرفني وأنا بعرف وطني» و«لازم غير النظام»، و«لا بداية ولا نهاية».

ربما أن الاختيارات جاءت أهدأ مما تمناه الجمهور، الذي كان ينتظر، أغنية سريعة وصاخبة، تكسر هذا الهدوء، كي ينتشي ويشارك ويصفق ويتمايل. «مدلي الدبكات» الذي أدته كل من رونزا وهبة طوجي أنعش الأجواء. غنتا «يا حجل صنين» و«مراكبنا عالمينا»، للأخوين رحباني، بينما كانت المفاجأة الكبرى، بعد مرور الجزء الأكبر من الحفل، حين صعد غسان صليبا على المسرح وغنى تلك الأغنية الشهيرة في مسرحية منصور «صيف 840» التي تقول: «لمعت أبواق الثورة، سكن الحقد المسافات، والأعلام الدموية... قوي قلبك وهجوم يا بتوصل على الموت يا بتوصل عالحرية». وهنا، بدا اللبنانيون وكأنهم العرب الأكثر ثورة وحماسة للتغيير. وقف الجمهور كله يصفق، ويردد ويغني الحرية صوتا واحدا، ويرفع السواعد. ولما كان الحماس قد بلغ أوجه، والطلب ملحاحا، عاد صليبا ليعيد هذه الأغنية الثورية الحارة، مع حضور متوقد ومتوهج. وبقي الجو حيويا مع أغنية «كان الزمان وكان، في دكانه بالحي» بصوت رونزا ومن ثم «كان عنا طاحون عنبع المي» مع هبة طوجي، وكلتاهما لإلياس الرحباني شعرا وتلحينا.

جاءت الأغنيات بأداء منفرد حينا، وثنائي، أو ثلاثي حينا آخر، واللحظات الأجمل هي التي جمعت المغنين الموهوبين الخمسة معا، في تناغم وتآلف مؤثر.

ففي نهاية الحفل، كان الأداء جماعيا لأغنيات وطنية متتالية، من تأليف وتلحين الأخوين رحباني، بدءا من «لا تخافي سالم غفيان مش بردان»، مرورا بـ«معافي يا عسكر لبنان»، و«بيقولو صغير بلدي»، وانتهاء بـ«بمجدك احتميت».

الربرتوار الرحباني، ينكأ الجرح، جرح الوطن الصغير الذي لا يتوقف عن النزف. مع هذا الأرشيف الوطني الذي ينضح إنسانية، يشعر المواطن المكلوم، بأن له بيتا آمنا يأوي إليه، ولو كان من نسج الأغنيات والكلمات، وفي عالم الخيال.

كان غدي الرحباني يعود إلى المسرح بين الفينة والأخرى، ليلقي كلمة صغيرة، يذكرنا فيها: «إن المؤسسة الرحبانية باقية وإن غادر أصحابها. وأنها مدرسة طلعت من بين الفقراء، واغتنت بمحبة الناس. رفضت الظلم والانتهازية. مدرسة عاشقة للحرية، والتسامح والمحبة». ورفض غدي الرحباني القول الذي يروج أن الرحابنة «صنعوا وطنا مثاليا»، قائلا إن الوطن الرحباني هو «وطن العمال، والمصانع، والمعامل والعدالة. ليس وطن السياسيين الذين رسموه ومزقوه بالممارسة السياسية. الوطن الرحباني حافظ الناس عليه بقلوبهم وعقولهم. الوطن الرحباني وطن لكل الناس. وقدرنا أن نحمل المشعل ونكمل المشوار، والدورة مستمرة لأجيال وأجيال».

ختامها كان مسكا مع أغنية «ليل ليل ليل» للأخوين رحباني، بعد جولة غنائية موسيقية حاولت أن ترضي كل الأذواق.

الحفل الذي جاءت فكرته بعد إحياء أسبوع عن الإرث الرحباني في أبوظبي مارس (آذار) الماضي، لم يسلم من الانتقاد، بسبب أداء مغنين آخرين، لأغنيات فيروز بينما هي ما تزال حية ترزق. من هنا بدا جليا في كلمات غدي الرحباني أن الحفلين اللذين أقيما يوم أمس وأول من أمس، كان تكريما للمدرسة الرحبانية كلها بأجيالها وقيمها ومبادئها وأحلامها، ولكل من توالى عليها، وإبرازا لدورها ومكانتها عند اللبنانيين والعرب.