ألمانيا تفتح أبوابها أمام المهاجرين

بعد تصويرهم عالة على المجتمع.. يحاول السياسيون استرضاء الأجانب

مهاجرون ينشدون النشيد الوطني الألماني في حفل المواطنة في برلين (رويترز)
TT

لاقى عطا أوجرتاس، وهو طبيب من إسطنبول ذو شارب كبير، استقبالا طيبا عندما وصل إلى ألمانيا هذا العام، في دليل على تحول في المسلك في ألمانيا مع تقلص عدد السكان وندرة القوى العاملة.

ونظرا لنقص الأطباء في ألمانيا، صدرت لأوجرتاس البالغ من العمر 25 عاما تأشيرة لتعلم الألمانية خلال شهرين من الطلب الذي قدمه. وقال في تقرير لـ«رويترز»: «مسؤولو الهجرة كانوا يعاملونني بلطف حقيقي». على مدى عشرات السنين جرت العادة على تصوير ملايين السكان من ذوي الأصول التركية على أنهم عالة على المجتمع، إلا أن صناع السياسات باتوا يحاولون الآن استرضاء الأجانب، ويتعلمون أن يكونوا أكثر قبولا للآخر. ونحو خمس السكان وثلث التلاميذ لديهم أصول غير ألمانية، مما يعني تزايد نسبة هؤلاء من الناخبين. ومع اقتراب الانتخابات في سبتمبر (أيلول) تتضح جيدا المواقف التي تبدلت في خطاب حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي له المستشارة أنجيلا ميركل.

وقبل عشر سنوات، عندما ارتفع معدل البطالة وكانت قوانين الهجرة صارمة كانت حملة حزب ميركل تركز على شعارات مثل «أبناؤنا أولى من الهنود»، لكنها الآن أصبحت تدعو إلى «ثقافة الترحيب» بالمهاجرين.

وقال توماس ليبيج خبير الهجرة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: «تبذل ألمانيا جهدا كبيرا لتشجيع الهجرة بسبب الوضع الديموغرافي الصعب الذي سيؤثر عليها أكثر من أي بلد آخر تقريبا في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية». وأضاف: «هذا الكلام عن ثقافة الترحيب جزء من العملية الكاملة كي تكون دولة تصبح فيها الهجرة مسألة عادية». ومع اقتراب البطالة من أدنى مستوى منذ إعادة توحيد شطري ألمانيا عام 1990 تواجه ألمانيا نقصا يبلغ 5.4 مليون من العمال المهرة بحلول 2025 على الرغم من محاولات للاستعانة بالمرأة وكبار السن.

وأظهرت بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن نحو 300 ألف شخص خاصة من الاتحاد الأوروبي هاجروا إلى ألمانيا عام 2011 بزيادة نحو الثلث عن عام 2010. وأغلبهم من دول شرق أوروبا التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في 2004 مثل بولندا. تشتهر ألمانيا بالعراقيل البيروقراطية التي تضعها أمام المهاجرين الذين يرغبون في تحسين مستواهم المادي. ولم يتم تشجيع مئات الآلاف من «العمال الوافدين» الذين جاءوا من إيطاليا واليونان وتركيا ودول أخرى في الجنوب في الستينات للمساعدة على إعادة بناء البلاد بعد الحرب العالمية الثانية على الاندماج في المجتمع وتعلم اللغة الألمانية، لكن كثيرين فعلوا ذلك. وخشية من البطالة خلال أزمة النفط في السبعينات أوصدت ألمانيا أبوابها، وحاولت إعادة الضيوف الذين لم يعودوا موضع ترحيب.

بل إن تدفق طالبي اللجوء وذوي الأصول الألمانية من الاتحاد السوفياتي السابق في التسعينات، وتحديات إعادة التوحيد جعلت ألمانيا أكثر عزوفا عن فتح الباب للهجرة. واستمرت القيود المفروضة على الهجرة من الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين لفترة أطول من أي بلد آخر في الاتحاد.

قال بيتر كليفر، وهو زعيم في اتحاد بي دي إيه للعمل: «حولنا سلطاتنا إلى حائط للنيران لعشرات السنين.. كنا نقول له: لا تجعل هؤلاء الناس يقتربون، يريدون فقط الدخول في أنظمتنا الاجتماعية.. طلبنا منه ألا يكون ودودا».

لكن مع تحسن سوق العمل في ألمانيا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين كان هناك نقص كما أن إجراءات لسد الفجوة مثل صفقات للاستعانة بعاملين في مجال القطاع الصحي من الصين والفلبين لم تكن كافية لسد النقص. بدأت ألمانيا في التخفيف من حظر السفر وبدأت بالعاملين ذوي الكفاءات وألغت الحد الأدنى للأجور الذي يحصل عليه العامل أو حجم الاستثمارات بالنسبة للمستثمرين للسماح لهم بالهجرة.

ألغت ألمانيا هذا الشهر 40 في المائة من لوائح الهجرة، وقللت من القيود بالنسبة للعمال من ذوي المهارات المتوسطة في قطاعات تعاني من نقص حاد، مثل سائقي القطارات والكهربائيين.

وقال ليبيج من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: «هذه الثورة الصغيرة مرت مرور الكرام دون أن تلفت الأنظار». وبالنسبة للعمال المهرة أصبح لدى ألمانيا الآن واحد من أكثر القوانين ليبرالية بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ عددها 34 دولة. وهي تعمل على التعامل مع عائق اللغة من خلال تنظيم دورات تدريبية جديدة في الخارج ومساعدة الناس على الاعتراف بمؤهلاتهم حتى لا يضطر الأطباء للعمل في وظيفة سائقي سيارات الأجرة.

وهي تستقبل الأجانب للدراسة في جامعاتها والانضمام للبرامج التدريبية التي تلقى احتراما كبيرا مع التركيز على مناطق في جنوب أوروبا ترتفع بها بشدة نسبة البطالة. استعانت بلدة ميندلهايم التي يبلغ معدل البطالة فيها 2.2 في المائة، أي منعدمة تقريبا، بالإسباني جان ساباتر فيالس البالغ من العمر 20 عاما للتدرب في مجال الفندقة. وقال: «من الواضح أن لدي فرصا في ألمانيا أكثر من إسبانيا.. أريد البقاء ثلاث سنوات أو أكثر».

ترتفع وتيرة الهجرة جدا، لدرجة أن عدد سكان ألمانيا زاد في 2011 للمرة الأولى منذ نحو عشر سنوات. لكن مقارنة بعدد السكان، فما زالت تجتذب عشر أعداد المهاجرين فقط الذين يهاجرون لبلد مثل كندا، التي تتبع سياسة ترحب بالمهاجرين. وما زال كثير من جيل العمال الوافدين وأسرهم يشعرون بأنهم لا يلقون ترحيبا خاصة غير الأوروبيين.

يبيع باريس يسيلداج (26 عاما) البقلاوة في السوق التركية ببرلين، ويقول إنه ولد في ألمانيا لأبوين تركيين، لكنه لم يتم قبوله قط كألماني، مضيفا: «أمضيت الخدمة العسكرية التطوعية هنا.. لكن ضابطا قال لي إني أفعل ذلك من أجل المال وليس من أجل ألمانيا». وفي حين أن اليمين المتطرف ضعيف سياسيا، فإن كراهية الأجانب ما زالت تتسرب إلى المناقشات اليومية في ألمانيا.

على سبيل المثال، حقق كتاب صدر في عام 2010 من تأليف تيلو ساراتسين، وهو مصرفي سابق في البنك المركزي الألماني ينتقد فيه المسلمين ويصفهم بأنهم دعاة حرب، أعلى المبيعات، مما شجع بعض المحافظين على مهاجمة المهاجرين، لأنهم لم يندمجوا في المجتمع.

ويقول خبراء إن هذا العداء زاد حدة بسبب تدني وضع العمال الوافدين الذين وجدوا صعوبة في رفع مستواهم الاجتماعي والاقتصادي. ويلقي كثير من الألمان باللوم في هذه المسألة على عدم رغبتهم في الاندماج. لكن في واقع الأمر، فإن النظام المدرسي الذي لا يلقي دروسا إلا لنصف اليوم الدراسي لا يساعد أبناء العمال الوافدين على تعلم اللغة الألمانية، وهذا ربما يعني لاحقا العمل في وظائف لا تتطلب مهارات.

وتقول الأمم المتحدة إن ألمانيا تتلكأ في مواجهة مشكلة التمييز في مجالات مثل الإسكان، وهو الأمر الذي أدى إلى جعل المهاجرين يعيشون في مناطق بعينها دون غيرها. كما أن المهاجرين لا يلقون التمثيل الكافي من حيث العمل في المناصب الحكومية والشرطة ووسائل الإعلام.

لكن ما من شك أن أحدث موجة من المهاجرين تواجه عراقيل أقل أمام الاندماج الاجتماعي، ومن أسباب ذلك بالطبع أن أغلبهم أوروبيون تلقوا قسطا راقيا من التعليم، وحصلوا على مساعدة لتعلم اللغة.

بدأ المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر من الحزب الديمقراطي الاشتراكي حملة لجعل المجتمع أكثر قبولا للآخر، بإصلاح قانون الجنسية الذي يعود إلى عام 1913 لتمكين المهاجرين من الحصول على الجنسية. كما ساعد على وضع دورات تدريبية لتعريف المهاجرين على اللغة والثقافة الألمانية. ويتعين على ميركل بذل جهد أكبر لإقناع المحافظين في حزبها الذين يتبنون عادة موقفا أكثر صرامة من المهاجرين، لكن جهودها لم تحقق نتائج كثيرة. وقعت أربع شركات خاصة عام 2006 على «ميثاق التنوع»، والآن أصبح هناك 1500 توقيع. وفي مراسم نظمت في برلين حصل رجال ونساء من جميع أنحاء العالم من نيجيريا إلى الصين على وثائق الجنسية. ومن بينهم كارولينا كروليكا، وهي طالبة جامعية تدرس الحقوق تبلغ من العمر 22 عاما وتتكلم بلكنة أجنبية قليلا. وصلت إلى ألمانيا مع أسرتها قبل سنوات وتريد البقاء.

أرجعت كروليكا الفضل إلى الدستور الألماني خلال هذه المراسم التي توجت بغناء النشيد الوطني. وقالت: «سوف أذهب للاحتفال الآن».