كردستان تبحث عن وهج رمضان الذي أفسدته التكنولوجيا

بغياب المسحراتي ومدفع الإفطار لم يعد له طعم ولا رائحة

عوائل تخرج بعد العشاء إلى الحدائق والمتنزهات ومدن الألعاب للترفيه عن أولادها («الشرق الأوسط»)
TT

في ستينات وسبعينات القرن الماضي كان شهر رمضان الفضيل، شهرا استثنائيا بكل معنى الكلمة وفي أنحاء البلاد. كانت العوائل تستقبل ذلك الشهر بفارغ الصبر، مستعدة له استعدادا كاملا من حيث إعداد مستلزماته، خاصة أنه في تلك السنوات لم تكن هناك ثلاجات ومجمدات لحفظ وتخزين الأطعمة، بل كان الاعتماد الأكبر على الفواكه؛ بل وحتى اللحوم المجففة، التي كانت تسمى في كردستان «القاورمة».

الناس كانوا ينتظرون حلول الشهر الكريم بفارغ الصبر لأنه بالفعل كان شهرا استثنائيا بالسنة، يحمل معه رغم مشقات الصوم والعبادات، مظاهر احتفالية متعددة ورائعة، بدءا من تجمع الشباب بالمقاهي الشعبية لمزاولة الألعاب الرمضانية، مرورا بتجمع نساء العوائل في بيت إحداهن للتسمر بالحديث، انتهاء بخروج الرجال وكبار السن إلى المساجد والجوامع لأداء صلاة التراويح وعقد حلقات الذكر والتسبيح ويرافقها توزيع الحلويات والفواكه وفي بعض الأحيان وجبات خفيفة خاصة أيام الشتاء عندما كان السهر يطول.

مع حلول الشهر الكريم كانت العوائل تستعد له بتحضير الحلويات، واعتادت نسوة أربيل خصوصا على تحضير صواني البقلاوة المنزلية، وكانت من أجود وألذ أنواع الحلويات التي كانت السيدات الأربيليات يبرعن بها، ويجهزنها بالدهن الحر وبأطيب أنواع العطور، على عكس البقلاوة التجارية التي تباع بالأسواق، فقد كانت البقلاوة المنزلية من طراز خاص. وكانت ربات البيوت يخزن بعض الفواكه المجففة لهذا الشهر، مثل التين المجفف والزبيب والمشمش وغيرها من أنواع الفواكه القابلة للتجفيف والتخزين حتى فصل الشتاء.

ويقول نوزاد كريم: «كنا نحن الصغار في ذلك الزمن نشعر بأجمل الأحاسيس عندما يهل علينا هلال شهر رمضان الذي كنا نترقبه بكل شغف. وكان أجمل صوت نسمعه بحياتنا، هو صوت طبل المسحراتي بأول ليلة من ليالي رمضان».

وفي مدن كردستان بذلك الحين كان هناك عدد قليل من المسحراتية الذين كانوا يجولون أحياء المدينة لإيقاظ الناس. وفي أربيل بالستينات كان هناك اثنان فقط من المسحراتية يخرجان على الناس بأحياء المدينة التي كانت صغيرة بذلك الوقت، فلم يتجاوز عددها أصابع اليدين، قسمها المسحراتيان بينهما، وكانا يخرجان إلى تلك الأحياء حاملين طبلا كبيرا من الذي يستخدم أيضا بالدبكات الشعبية، فيدقون الطبول ليوقظوا الناس.

ويقول نوزاد: «في أعوام الثمانينات والتسعينات عندما اتسعت مدينة أربيل كان المسحراتي يخرج من بيته بحلول منتصف الليل ضاربا على طبله حتى يلحق بإيقاظ جميع سكان المدينة، وكان تعيس الحظ هو من كان منزله قريبا من منزل المسحراتي لأنه كان يستيقظ بحلول منتصف الليل أو بعده بقليل، فيما كان الآخرون يشبعون من النوم عندما كان المسحراتي يصل إليهم بأوقات قريبة من السحور. وكان المنظر الأجمل في كل ذلك هو حضور المسحراتي صبيحة يوم العيد إلى البيوت وطرق أبوابها لتسلم العيدية، على اعتبار أنه أيقظنا طوال شهر كامل، فكانت العوائل تدفع له أجره (بقشيشا) مقابل عمله ذاك».

هذه المهنة انقرضت مع سائر العادات والتقاليد الجميلة التي عاشتها مجتمعاتنا، فقد أصدرت وزارة الأوقاف بحكومة إقليم كردستان قرارا بمنع المسحراتي تحت ذريعة أن هناك مرضى يتأذون من سماع صوت الطبول، وأن وجود الهاتف الجوال يعوض الحاجة للمسحراتي.

يشير فاضل سليمان، وهو من جيل الستينات: «من أجمل ذكرياتي عن شهر رمضان، حينما كنا نتجمع قبل أذان المغرب قرب مدفع الإفطار الذي كان موجودا بمحلتنا خانقاه بمدينة أربيل. كان هناك مدفع ينصب بالقرب من مرقد السيد زكريا بسوق الخضراوات بشارع شيخ عبد الله، وكنا نحن الأطفال نتجمع حوله قبيل إطلاقه، وكان المدفع يحشى بقطع من القماش والبارود يطلقه رجل أعتقد أنه كان من البلدية، وتتناثر تلك الأقمشة المحترقة بالهواء وتختلط رائحة البارود برائحة القماش المحترق.. ما زلت أشتم تلك الروائح كلما شاهدت مدفع الإفطار في التلفزيون.. هذا المدفع أيضا رفع منذ سنوات طويلة، ولم يعد هناك أي صوت ينبئ بوقت الإفطار غير سماع الأذان بالتلفزيونات».

مع انقراض مهنة المسحراتي ومدفع الإفطار، انحسرت أيضا الألعاب الرمضانية. فكما يقول جعفر نوري، فإن «الشهر كان متميزا بالعديد من الألعاب الشعبية مثل (الصينية والظرف) و(المحيبس)، والتي كانت تنظم بحلقات كبيرة داخل المقاهي الشعبية في الستينات والسبعينات، وكان شباب المدينة يتجمعون بتلك المقاهي لتنظيم لعبة (الصينية والظرف) ويستغرقون باللعب إلى ساعات السحور، ومن المقاهي كانوا ينطلقون إلى الحمامات الشعبية بعد السحور ليعودوا منها إلى بيوتهم، وكانت تلك المراسم تتكرر بشكل يومي».

اليوم أصبحت غالبية العوائل تقضي لياليها الرمضانية إما بالتجول في السوبر ماركت ومراكز التسوق التي زادت أعدادها مؤخرا، أو يفترش شباب المدن أرصفة الشوارع يتابعون مباريات كرة القدم بالشاشات المنصوبة في شوارع المدينة، أو يدخنون النارجيلة داخل المقاهي، وهناك عوائل تخرج بعد العشاء إلى الحدائق والمتنزهات ومدن الألعاب للترفيه عن أولادها، فيما الغالبية العظمى تقضي أوقاتها متسمرة أمام شاشات التلفزيونات لمتابعة مسلسلات رمضان وما أكثرها كل سنة.

أصبح شهر رمضان اليوم في كردستان بلا طعم ولا رائحة زكية كما كان في السابق، فهل يا ترى بقي ذلك الوهج الرمضاني في البلدان الإسلامية الأخرى، أم أن التكنولوجيا أفسدته هناك أيضا؟