ماريا باخوس ملكة الفلامنكو تعانق الشعراء والفن المعماري

من فوكوشيما إلى لشبونه مرورا بـ«مهرجانات بيت الدين»

TT

تألقت راقصة الفلامنكو الشهيرة ماريا باخوس، وهي تؤدي منفردة أو مع فرقتها، وصلاتها الأخاذة، في قصر بيت الدين التاريخي، يوم الجمعة الماضي، على وقع موسيقى الغيتار والكمان، وخبط الأرجل وتصفيق الأكف.

الفرقة الكاملة، والمؤلفة من أكثر من 15 شخصا اعتلت المسرح. عزف موسيقي حي، غناء صادر من حناجر تحمل الألم والطرب في وقت واحد، والرقص آت من جنوب إسبانيا بجذوره العربية والغجرية، بأبهى مشهدياته، مع ماريا الإشبيلية التي تجمع الشرق بالغرب في تصاميمها الراقصة.

جاء آلاف للقاء مواهب ماريا. أعمار الحاضرين لم تكن بالصغيرة أبدا. إنه جمهور متوسط سنينه تجاوز الأربعين. وهو جيل مختلف عن ذاك اليانع، الذي يذهب لحضور حفلات لفرق أميركية وإنجليزية صاخبة. إنه جمهور يبحث، ربما، عن أندلسه الضائعة.

لم تخيب ماريا باخوس ظن الحاضرين، وخلال ساعة ونصف، عزفت الفرقة مقطوعات وضعها خصيصا لهذا العرض الموسيقي روبن لبنياغوس، وغنى المغنيان المرافقان، مقطوعات لشارل بودلير ولصاحب نوبل التشيلي بابلو نيرودا وكذلك بعض المقاطع من رائعة «دونكيشوت» لسرفنتس، وأبيات للشاعر الإسباني أنطونيو ماشادو. العمل مستوحى من الأزمة المالية الخانقة التي عاشتها إسبانيا مؤخرا، ومن التقلبات الجذرية التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، لذا فإن بعض الأغنيات وضعت كلماتها خصيصا لهذا العرض.

لسوء الحظ، لم نتمكن نحن - المتفرجين العرب - من فهم النصوص الأدبية بالإسبانية التي أريد لها أن تكون جزءا من اللوحات، لكن الجماليات المشهدية كانت كفيلة بتعويضنا. المسرح الفارغ تماما تحول إلى ساحة، قد تكون ساحة قرية أو أي مكان آخر، يستطيع الراقصون بحركتهم وتشكيلاتهم، والموسيقيون بالكراسي الصغيرة التي يجلسون عليها، وبتحلقهم حول بعضهم بعضا أن يشعروننا بأننا في مكان له سماته وحيويته. شيء ما يشبه تجمعات أي قرية شرقية يلتئم فيها شمل الأهالي ليغنوا شجونهم وهمومهم، وتتمايل أجسادهم تعبيرا عما يختلج في نفوسهم.

عنصر في غاية الأهمية في هذا العمل جعل للسينوغرافيا ميزة لا تضاهي، إنها روح المهندس المعماري البرازيلي الأشهر أوسكار نيماير. صحيح أن الخشبة كانت فارغة أو تكاد، لكن فضاءها كانت تتحرك فيه ثلاثة خطوط معدنية رفيعة وبراقة. هذه الخطوط التي تعبر فضاء المسرح كانت تتحول إلى قناطر لها أشكال مختلفة أحيانا، أو خطوط متشابكة متعاركة أحيانا أخرى، وقد نراها مجرد خط أفقي واحد يظلل الراقصين. تعددت أشكال الخطوط وتنوعت مع كل لوحة. ربما أن المتفرجين لم يدركوا تماما أن هذه الحبال المتراقصة كأجساد المؤدين، كان لها فعل السحر على المشهديات. فالبعض لا يعرف أن الفكرة مستوحاة من أعمال المهندس الذي ارتبط اسمه بتصاميم مدينة برازيليا وامتازت مبانيه بالمنحنيات ذات المعاني البديعة، وأن له في لبنان وتحديدا في طرابلس تحفة خالدة، هي معرض طرابلس الدولي، حيث بمقدور الزائر أن يرى شبيها لهذه الخطوط المتراقصة التي وجدت على المسرح. ففي هذا المعرض القائم على مساحة هائلة، مبان فنية، لم يعرف اللبنانيون لغاية اليوم كيف يوظفونها وفي أي مجال، وكأنما عبقرية الرجل باتت عبئا عليهم.

على أي حال نيماير، رحل منذ عدة سنوات، ومساعدته جير فاريلا هي التي ساهمت بالتعاون مع ماريا في نقل هذا المفهوم المعماري إلى المسرح.

من وحي الأوضاع الإنسانية المتقلبة في العالم، ونصوص كبار الأدباء، وتصاميم نيماير الفلسفية المعمارية رقصت ماريا باخوس، ورقصت فرقتها.

في وصلاتها المنفردة، كان اللباس جزءا أساسيا، فهي مرة تظهر كبجعة ومرة أخرى كطير يهيم في السماء، ومرات كثيرة كانت تغمر ذيل فستانها وتراقصه وتحتضنه وهي تعانقه برقة وشجن.

شكل الفساتين، أو حتى التخلي عنها لصالح بنطال ضيق يظهر بوضوح مهارة الراقصة وجسدها المنتصب كرمح، هي عناصر تصنع الفكرة والغرض الذي ترمي إليه ماريا.

فلامنكو هذه الإشبيلية، ليس بالضرورة فلكلورياً خالصاً، فهو خليط هجين أحيانا، بسبب عشقها الواضح لرؤية الثقافات تتعانق وتتواصل. لكنها تفعل كل ذلك مع إخلاص لجذور الفلامنكو وروحه الجماعية. رغم وجود عدد محدود من العازفين إلا أن الموسيقى هي في الحقيقة هذا المزيج الذي تحدثه الأفواه والأرجل والأكف، وهذه الأنغام الخارجة من أفواه الراقصين أنفسهم. بهذا الفرح ذهبت ماريا وفرقتها إلى فوكوشيما أثناء جولتها اليابانية الأخيرة، في رغبة منها للقاء ضحايا المأساة النووية هناك، وبهذه الروح نفسها ستحط في لشبونه، في البرتغال في سبتمبر (أيلول) المقبل، ومرورها في بيت الدين لقي ترحابا وتصفيقا وتحايا حارة من جمهور آنسته رؤية الفلامنكو الشرقي النفحة، المليء بالعنفوان، والطالع من أجواء الأندلس، في لحظة انكسار كبير وبحث عن أمل.