من الشارع إلى التلفزيون

مسلسلات رمضان مكتظة بمواقف سياسية ـ دينية متناقضة

عادل إمام في «العراف» و دريد لحام إنساني في «سنعود بعد قليل»
TT

قبل أقل من سنة كاملة وجد الممثل عادل إمام نفسه في قفص الاتهام. الإخوان المسلمون وبعض التيارات السلفية اتهمته بالإلحاد وازدراء الدين الإسلامي وطالبت بمحاكمته. ببراعته المعهودة حوّل الممثل المعروف التهمة ذاتها فإذا بالجماعات المدّعية هي التي أصبحت متهمة بينما بقي عادل إمام صامدا في وجه هذا التحدّي الذي يواجهه بعد أكثر من ستة عقود مرّت عليه منذ امتهانه الفن.

أكثر من ذلك، ومع قرار البراءة من الذنب الذي أصدرته المحكمة، ازدادت صلابة الممثل المعنوية الذي كان حينها يقوم ببطولة مسلسله الحالي «العراف» حول رجل متحرر من كل سلطة يرتكب جنايات ضد القانون لكنه يوزع ما يجنيه على المساكين ويعمل خالصا لجمع شمل أسرته الواسعة.

عادل إمام، الذي تطرّق إلى المواضيع ذات الخلفيات السياسية منذ مطلع الثمانينات بأفلام مثل «إحنا بتوع الأتوبيس» و«حب في الزنزانة» و«على باب الوزير» و - لاحقا - «كراكون في الشارع» و«الإرهاب والكباب» و«طيور الظلام»، لم يخف يوما استقلالية مواقفه ولم يسع لتجنب إثارة الشارع أو المؤسسات الرسمية على حد سواء.

طبعا جزء من اللعبة الممارسة على حساب الهامش العريض حينا والضيق حينا آخر من الحريات هو فعل ما يلزم للبقاء في ذهن المستهلك العربي والحفاظ، بالتالي، على النجومية وما تمنحه من مصالح ومكافآت. لذلك كانت مواقف إمام محسوبة على هذا الصعيد أيضا، ولو أن هذا لا يعني أنه لم يكن مخلصا لمواقفه السياسية والمبدئية حين كان ينقد السلطة في الثمانينات ثم تفشي المد الإسلامي في مصر في التسعينات.

إمام كوميدي ساخر ويمارس السخرية على أكثر من وجه. ربما من خلال تعليق أو من خلال مشهد أو من خلال تقليل شأن من يعتبرهم أعداء للانفتاح السياسي والاقتصادي وحتى الديني.

الجمهور الغالب هذا كله وارد في خلفية «العراف» لدرجة أن أي ممثل آخر لو قام بالدور لبدا خارجا عن جسد الشخصية. المعنى هنا هو أن تشخيص دور المناضل في الحياة على طريقته، الهارب من السُلطة والمعادي للتطرّف، في هذا المسلسل مستمد من مواقف معلنة بما فيه الكفاية من خلال أعماله الفنية السابقة.

في المقابل، وحين النظر إلى هاني سلامة في دور «الداعية»، وهو دور أكثر التصاقا بالتناقض الاجتماعي الحاصل اليوم بين المعتدلين والمتطرّفين، لا يمكن إلا اعتبار الدور عملا طارئا للممثل سيمضي كما جاء. عمل منفرد من نوعه بالنسبة له، قد يتكرر لاحقا لكنه سابقة بالنسبة إليه.

هذا، من منظور المسلسلات المتوالية هذا الشهر، لا علاقة له بجودة هذا المسلسل أو ذاك أو بمستواه حيال مستوى أي مسلسل آخر. علاقة أي من هذين المسلسلين المذكورين الأولى هي بظاهرة تأثر عدد كبير من إنتاجات رمضان الدرامية والكوميدية (مصرية وسورية على الأخص) بالأحداث السياسية القائمة هذه الأيام.

المسألة كانت أكثر وضوحا بالأمس مما هي عليه اليوم.

عندما كانت السينما العربية هي صوت الجمهور في كل بلد، كان من المتوقع مشاهدة أفلام مع الثورة الجزائرية (مثل «جميلة بوحيرد» ليوسف شاهين) أو تنتقد الخط السياسي لبلد معين (كحال فيلم «ثرثرة فوق النيل» لحسين كمال أو «الكرنك» لعلي بدرخان) أو تدعو لنضال مسلح (كحال أفلام مصرية وسورية ولبنانية وأردنية جُيّرت لصالح القضية الفلسطينية).

كان الحكم الأول يتعلق بالمستوى الفني للعمل والثاني بمضمونه. لذلك ارتفعت الأعمال («الكرنك» و«المخدوعون» لتوفيق صالح) بحسب قيمها وعناصرها الفنية وانحدرت حسب انحدار تلك العناصر أفلام أخرى (مثل «الرصاصة لا تزال في جيبي» لحسام الدين مصطفى أو معظم ما أنتج من أفلام روائية حول الموضوع الفلسطيني).

معارضة ومتدينون حاليا، ومع انتقال الحجم الأكبر من المشاهدين العرب إلى شاشات المنازل والإنترنت، فإن التقييم لم يعد قائما أساسا على عناصر فنية محددة، بل على مجمل النظرة الفردية للمخرج وكيفية سرده للعمل، يتقدّم ذلك وجهة المسلسل الحكائية ومن يقود بطولته. كذلك لم يعد واردا البحث في مستقبل نوع معين من الإنتاجات أو في أسلوب جامع بينها سواء من حيث تياراتها أو أنواعها.

«العراف» ليس، تبعا لما ورد، بالمسلسل الجيد فنيا وحين يصبح الممثل هو المحرك الأول والدافع الأساسي للقرارات عنوة عن أي عنصر آخر، فإن العمل الفني سيخوض حرب بقاء. من ناحية هو مسلسل متعوب عليه إنتاجا وتكلفة، ومن ناحية أخرى يفتقد إلى معالجة تحرره من تبعية الممثل كونها تستطيع إبراز عنصر الإخراج لجانب العناصر الأخرى.

لكن «العراف» ولأنه مسلسل تلفزيوني يعرض في الوقت الذي تمر به مصر (وبعض سواها) بأزمة مصيرية، كسب وبسبب علاقة ممثله بالوضع السياسي من قبل، جمهورا عريضا حتى قبل أن يبدأ.

تحتل السياسة النصيب الأكبر من مضمون هذا العمل حتى وإن كانت الحلقات تشيع ذلك القدر من المنوال الإنساني والعاطفي. بطل الفيلم يعكس فريقا ثالثا بين التيارات، فهو يقف على الجانب الآخر من دولة القانون، لكنه ليس جانبا معاديا للنظام. وهو ليس من المعارضين المتدينين في الوقت ذاته، كما ليس مواطنا من المضطهدين على الإطلاق، ما يجعله شخصية قصد بها أن تكون منفردة وكان لها ما أرادت.

من ناحيته، نجد «الداعية» يمشي في خندق أوضح شأنا: بطله داع إسلامي لديه برنامج تلفزيوني ناجح ويؤم خطيبا مؤثرا في أحد المساجد ويدير شؤون حياته انطلاقا من تعاليم الإسلام الحنيف. لا غبار على ذلك باستثناء أنه سيكتشف لاحقا أن المسألة أكبر مما كان يتصوّر. أن الحياة تتطلب فهما عريضا للمتطلبات والمسؤوليات والظروف ما يجعله ينتقل من الصورة النموذجية لدى الإخوان، إلى صورة معادية.

ما يجمع «الداعية» و«العراف»، لجانب شغلهما السياسي، هو أن مستوى معيشة كل شخصية رئيسة فيه أعلى من معظم الطبقات الشعبية الأخرى ما يقترح أن ممارسة الخديعة (في «العراف») والدين (في «الداعية») طريقان متوازيان يصلان بصاحبهما إلى رغد العيش.

رقعة المفارقات الوضع السوري، من ناحية أخرى، لا يقل حضورا. لكنه وضع مختلف تماما كما يرد في مسلسلات مثل «حدود شقيقة» و«الولادة من الخاصرة 3» و«سنعود بعد قليل» و«وطن حاف» وصاحب أسوأ عنوان بين مسلسلات هذا العام «الانفجار في قلب اللهب».

لا يوجد بين هذه المسلسلات وأخرى سواها ما يتخذ موقفا سياسيا واضحا ضد النظام القائم. ما هو متوفر مسلسلات تستوحي مما يحدث مواقف وسطية أو إنسانية كما بضعة مسلسلات تؤيد النظام على أساس أن المعارضين ليسوا أفضل منه، وأن العمليات العسكرية ما هي إلا تصرفات إرهابية. طبعا حدود وإمكانات المسلسل لا تتيح تصوير حروب واسعة النطاق، لذلك يكتفي «الولادة من الخاصرة 3» مثلا بمشهد تفجير انتحاري، بينما يحتوي «الانفجار في قلب اللهب» على تفجير حافلة مدنية. كلا المسلسلين يقصد أن يقول إن القتل هو من فعل المعارضة وحدها وعليه فإن المشاهد، السوري أولا والعربي ثانيا، مدعو للموافقة على ذلك.

يستوقف في مسلسل «وطن حاف» معالجته الخفيفة للقضايا العصيبة. هو من إنتاج مستقل بمعنى أنه لا يتبع إدارة حكومية، لكن مسؤوليته هي ذاتها من حيث عدم القدرة على خوض مسائل سياسية شائكة لصالح أي طرف. على ذلك، لديه حلول تعكس رأيه فيما يقع. في إحدى حلقاته يغادر راكب سيارة خلال زحمة سير باحثا عن مكان يقضي فيه حاجته. سرعة مغادرته من دون تبرير تبث الريبة في باقي الركاب فيعتقدون أن الراكب زرع فيها متفجرة موقوتة، فيغادرونها راكضين ما يدفع براكبي وسائقي السيارات الأخرى إلى ترك سياراتهم والهرع بعيدا خوفا من الانفجار. حين يعود الراكب وقد أفضى، ويجد الناس تهرع من حوله ينضم إليها مصدّقا ما ليس هناك داع لتصديقه.

الميزانية المحدودة لا تدفع إلى تقديم عرض تاريخي وسياسي واسع حتى ولو كان الإنتاج لديه وجهة نظر صارمة في هذا الشأن أو ذاك. إضافة إلى ذلك، فإن البرنامج السوري في قلب الأحداث الدائرة لا يستطيع أن يتخذ موقفا واضحا مع النظام أو ضده خوفا من عدم بيع المنتوج إلى المحطات الأخرى.

هذا ما يجعل الأعمال التي شوهدت، وهي شوهدت انتقائيا كون مشاهدتها جميعا على نحو كامل أمرا غير ممكن، متاحة في عدد من الدول اتخذت مواقف لا غبار عليها تأييدا للثورة السورية.

خط الوسط هذا متداول في أنجح المسلسلات السورية الحالية وهو «سنعود بعد قليل».

الحال أن المضمون الأبعد للمسلسل هو أن الأحداث الأمنية تضر البلد من دون جدوى وأن المعارضة ليست أفضل حالا من النظام ذاته. أما المضمون الأقرب، والذي على أساسه تم توسيع رقعة المفارقات التي لا علاقة لها بالسياسة أو بالأوضاع الأمنية، فهو أن هناك حالات إنسانية صعبة يمر بها سوريون ولبنانيون تبعا لما يقع وأن هذه الحالات هي التي استدعت تحقيق هذا المسلسل.

ما يساعد المسلسلات السورية على المرور من الأزمة بنجاح عاملين: الأول فني. التمثيل في هذه المسلسلات (وعموما في كل المسلسلات السورية) هو أعلى بدرجات من معظم ما نراه على شاشات المسلسلات الأخرى. والسبب الرئيس في ذلك عائد إلى أن الممثلين، عموما، ينطلقون من دون انتماء إلى نماذج عليهم تقليدها (على عكس نجوم التلفزيون في مصر مثلا باستثناء يحيى الفخراني في العام الماضي وهاني سلامة هذا العام) ما يعني قدرتهم الأفضل على ولوج شخصياتهم بواقعية شديدة.

العامل الثاني سياسي: وجود العنف الديني وسط الحركة المقاومة للنظام يصبح هدفا سهلا لتأليب الرأي العام. «الإرهابيون» يصبحون صيدا سهلا، والحال هذه، للمسلسلات التي تريد في نهاية المطاف تأكيد أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.