لبنان الأخضر في مواجهة النار

ربع مساحته غابات.. وإمكانيات حمايتها شبه معدومة

الإمكانات المحدودة للدفاع المدني اللبناني وغياب التنسيق بين الوزارات المعنية من الأمور التي تضع الثروة الحرجية اللبنانية في خطر دائم
TT

دخل لبنان موسم الحرائق الصيفي السنوي. وبدا يوم الاثنين الماضي الأكثر قسوة، حيث شبت نيران في عدد من أحراج عكار (شمال لبنان)، وليس بعيدا منها اندلع حريق ضخم، هو الأكبر بينها، في منطقة الضنية، وتحديدا في السفيرة. وبقي هذا الحرج مشتعلا، حتى يوم أول من أمس، وسط صيحات الأهالي وطلبهم للنجدة، مما استدعى استعانة الدفاع المدني اللبناني بالسلطات القبرصية التي وافقت على إعارة لبنان طائرة من اثنتين في حوزتها، متخصصتين في إخماد حرائق الغابات.

الإمكانات المحدودة للدفاع المدني اللبناني، والإهمال الشديد، وغياب التنسيق بين الوزارات المعنية، من الأمور التي تضع الثروة الحرجية اللبنانية في خطر دائم. انخفاض نسبة الحرائق العام الماضي، يعزوه أحد المسؤولين في وزارة البيئة إلى سقوط الأمطار في شهري يونيو (حزيران) وسبتمبر (أيلول)، وليس إلى أي إجراءات حقيقية على الأرض. الطائرتان «كورسيكي» المتخصصتان في إطفاء الحرائق اللتان تبرع اللبنانيون لشرائهما من جيوبهم، لم تكونا فاعلتين، لأسباب تقنية، إذ لكل حريق خصوصيته وحاجاته.

حريق منطقة السفيرة شب في غابة مساحتها نحو 5 ملايين متر مربع، بحسب نائب رئيس اتحاد بلديات الضنية، حسين هرموش، الذي وصف الغابة بأنها «من بين الأكبر في الشرق الأوسط، وهي تتوسط بلدات بطرماز، طاران، مراح السفيرة، كفر تبنين، والسفيرة». ويقول هرموش في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن هذه الغابة الهائلة تطل عليها عدة قرى، وغالبية أشجارها من الصنوبر المعمر الذي يتجاوز عمره المائة سنة، وإن رجال الدفاع المدني وجدوا أنفسهم عاجزين عندما وصلت الحرائق إلى وديان وجبال لا مسارب يمكن أن تؤدي إليها». واشتكى هرموش أول من أمس من عدم وصول أي مسؤول في الدولة، أو وزير أو حتى مدير عام في وزارة، لتفقد الثروة المتآكلة، والسكان الذين هربوا جراء حالات اختناق كثيرة، أصابتهم بسبب الأدخنة. وأضاف هرموش «شاهدنا طائرتين للجيش تطفئان الحريق، ثم لم نعد نرى غير واحدة، وبعد ذلك غابت المحاولات كليا، وها نحن ننتظر وصول الطائرة القبرصية». واستغرب هرموش ألا تزور المنطقة المنكوبة أي جمعية بيئية من بين عشرات الجمعيات الناشطة في لبنان».

مدير عام الدفاع المدني، العميد ريمون خطار، يرى أن «عمل الدفاع المدني يجب أن يكون وفق خطة متكاملة، تشارك فيها الوزارات والسلطات المحلية، وكذلك الأهالي، كل تبعا لإمكاناته»، مشتكيا من أن غالبية أفراد الدفاع المدني في لبنان هم اليوم من المتطوعين. و«القانون الجديد الذي يمكننا من التوظيف لم يصبح نافذا بعد». وقال خطار «إحدى أهم المشاكل التي واجهتنا في السفيرة مثلا هي أن السلطات المحلية لم تشق طرقا صغيرة، ومسارب داخل هذه الغابة تمكننا من الوصول إلى الأماكن الوعرة. هذا أساسي ومن دونه لا يستطيع رجال الإطفاء القيام بعملهم. حرائق عكار أطفئت لأن البلديات كانت قد قامت بعملها، أما في السفيرة فالوضع كان مختلفا. معولا على الطائرة القبرصية التي يخبرنا بأنها أقلعت من بلادها وستتوجه إلى لبنان».

وقال حسين هرموش «الآن الكارثة وقعت، وما نريده منهم هو اجتماع لكل الوزراء المعنيين لوضع خطة حماية، كي لا نقع في الفخ مرة أخرى، غدا (أمس) سأكون في الهيئة العليا للإغاثة لأقول ما عندي، فإما أن يحدث هذا الاجتماع، أو يضعوني في السجن». وشرح لنا مسؤول في وزارة الزراعة أن «عرض النار أثناء حريق غابة السفيرة وصل إلى نحو الكيلومتر، مما جعل المشهد مخيفا. وقد اضطرت فرق الدفاع المدني لإيقاف عملياتها بسبب سرعة الهواء، وعدم جدوى التدخل في مثل هذه الحالات في غياب المعدات التقنية اللازمة».

«السلطات مقصرة، والإمكانيات قليلة، لكن هناك عملا جادا»، يقول الدكتور شادي مهنا، مدير التنمية الريفية والثروات الطبيعية في وزارة الزراعة «هناك خطط كثيرة لحماية الثروة الحرجية، ووضعت استراتيجية وطنية وافق عليه مجلس الوزراء عام 2010، تحدد لكل وزارة دورها وصلاحياتها، لكن لأسباب نجهلها لم توضع قيد التنفيذ». ويضيف مهنا «العناية بالغابات لها ثلاث مراحل: أولا الوقاية، ثانيا الإطفاء، وثالثا إعادة التأهيل. وزارة الزراعة تهتم بالخطوتين الأولى والثالثة وليس من صلاحيتها الإطفاء. فللوقاية نحن نقوم بتخفيف الغطاء الورقي للأشجار وهذا ما نسميه (التشحيل)، لكن الميزانية المخصصة قليلة جدا، وقد تم تخفيضها أيضا، ونقوم أيضا بتنظيف جوانب الطرقات، من النفايات التي يمكن أن تسبب الحرائق، ونحمي الغابات بوجود الحراس الذين لا يزيد عددهم اليوم على 150 حارسا في كل لبنان. تم إعطاؤنا إذنا بتوظيف 170 حارسا لكن الحكومة استقالت وتم تجميد الموضوع».

ومن واجبات الوزارة أيضا كما يقول الدكتور مهنا «إعادة تأهيل الغابات بعد احتراقها، وقد أقامت لذلك مشاتل، أنتجت ما يقارب المليون ونصف المليون شتلة، لكن زراعتها والعناية بها بعد ذلك تحتاج ميزانية غير متوافرة في الوقت الراهن».

يخفف الدكتور مهنا من درامية الموقف، ويرى أن ثمة مبالغة في تصوير ما يخسره لبنان جراء الاحتراق السنوي للغابات، مؤكدا أن الثروة الحرجية في لبنان لا تتناقص أبدا، بل تكاد تكون ثابتة، تبعا لدراسة أجريت عام 2005 ومن ثم أخرى عام 2012 بينتا أن المساحة الحرجية لم تتغير، فـ13 في المائة من مساحة لبنان مغطاة بالغابات، و11 في المائة أخرى يطلق عليها تسمية «مساحات حرجية أخرى» أي أنها شبيهة بالغابات. ويعزو مهنا عدم خسارة لبنان لمساحاته الخضراء رغم الحرائق الكبيرة التي يتعرض لها حين ترتفع درجة الحرارة دون تساقط الأمطار مع هبوب رياح قوية، إلى أن ثمة الكثير من الأراضي الزراعية المهملة التي تمتد إليها الغابات لتكبر وتتمدد».

ويعتقد مهنا أن الخطر على لبنان الأخضر ليس من الحرائق في الوقت الراهن لأن إعادة التأهيل تبقى ممكنة ولو احتاجت وقتا، لكن الخطر الحقيقي هو من الباطون، والعمران العشوائي الذي يقتلع الأخضر نهائيا ولا يترك أملا في عودته.

بينما يشدد وزير البيئة ناظم الخوري، في حديث مع «الشرق الأوسط»، على «ضرورة إعادة تفعيل دور حراس الغابات، أو ناطور الضيعة، الذي كان له باستمرار دور أساسي في حماية الأحراج من التخريب والحريق، بدليل أنه مع تدني عدد الحراس بات كم الحرائق إلى تزايد».

ومع كل حريق كبير يأتي على مزيد من الهكتارات الخضراء في لبنان، يبدو واضحا أن أجهزة الدولة مفككة، فكل وزير يرى أن وزارة زميلة هي المقصرة في القيام بواجباتها، وكأنما ليس واضحا لأحد من المسؤولين ما هي واجباته. ومنذ كان زياد بارود وزيرا للداخلية طالب بإنشاء خلية للأزمات، مخافة أن تقع كارثة كبيرة في لبنان، كزلزال جلل، مثلا، ويكون مصير الضحايا من المدنيين ليس أفضل حالا من الأشجار التي تحترق منذ أيام ولا تعرف الوزارات من المسؤول عن إنقاذها، وإن هي عرفت لا تملك العدة أو الإمكانات اللازمة لذلك.