دمشق في العشر الأواخر من رمضان طاسة سخنة طاسة باردة

الحركة بعد الإفطار تعود إلى قلب العاصمة

الحركة بعد التراويح وسط العاصمة لم تبدأ بالنشاط إلا بعد اليوم الخامس عشر من رمضان، قبلها كانت المدينة تخلد إلى سكون مرعب على وقع أصوات القصف (رويترز)
TT

«عندما خرجت إلى السوق بعد صلاة التراويح انشرح صدري لرؤية ازدحام الناس في الشوارع، شعرت أن دمشق عادت أربع سنوات إلى الخلف» قالت هيام.ن التي تسكن في حي الصالحية الهادئ وسط العاصمة دمشق لدى وصفها الأيام العشر الأواخر من شهر رمضان، وتتابع: «هذا العام تبدو الحركة في الأسواق بعد الإفطار أفضل بكثير من العام الماضي، رمضان الماضي كانت الأجواء مكهربة».

لكن الحركة بعد التراويح وسط العاصمة لم تبدأ بالنشاط إلا بعد اليوم الخامس عشر من رمضان، قبلها كانت المدينة تخلد إلى سكون مرعب على وقع أصوات القصف المنطلقة من جبل قاسيون على الأحياء الجنوبية والشرقية وريف دمشق. وتقول هيام.ن (48 عاما) «القصف لم يتوقف بل اشتد لكن الناس صار لديها قناعة بأن الحرب طويلة، وعليهم متابعة حياتهم».

في الساعة التي تلي الإفطار وبينما تنقل فيها محطات التلفزة أخبار الدمار والقصف والاشتباكات في المناطق الساخنة، هناك من ينصرف لمتابعة المسلسلات بينما تخرج ربات البيوت والنساء الدمشقيات إلى المساجد القريبة للمشاركة في صلاة التراويح، في طقوس اعتاد عليها السوريون في رمضان، وانحسرت خلال العام الماضي لتعود وبقوة هذا العام، فبينما تكون الشوارع معتمة والأسواق ما تزال مغلقة، تسمع خطوات أفواج النساء تحث الخطى على الأرصفة مجتازة الحواجز بينما الجنود في حالة استرخاء، قبل عودة الحركة بعد انتهاء الصلاة. فدمشق ساعة الإفطار ليس بعدها لا سيما في أسواق الصالحية والحمرا والشعلان والطلياني وفي مقاهي الأحياء الراقية كالمالكي وأبو رمانة وغيرها من مناطق تقع تحت سيطرة النظام، وتحولت إلى شبه محميات آمنة في محيط ملتهب، لا تخشى إلا من قذائف طائشة تتساقط هنا وهناك فتنشر الرعب، أو انفجار عبوة ناسفة يستهدف شبيحا أو مخبرا، حتى هذه لم يعد أحد من سكان المدينة حاليا يعبأ بها.

«الأعمار بيد الله» قناعة يتحلى بها السوريون للتغلب على الخوف والرعب، لكن منظر الناس والأغاني الريفية الممجدة للنظام القريبة من القصر الجمهوري في مقاهي المالكي وأبو رمانة «مستفزة لمشاعر المنكوبين» يقول أحمد.ل طالب الجامعة النازح من مدينة حمص إلى قلب العاصمة: «مررت أول من أمس في حي المالكي كانت المقاهي مكتظة بالناس يدخنون الأركيلة ويتابعون المسلسلات، والشبيحة في السيارات يرفعون صوت أغاني علي الديك وكأن شيئا لا يجري في الطرف الآخر من المدينة، حيث تسقط حمم القذائف وتحصد أرواح الناس، تخيلت نفسي في حي النزهة الموالي في حمص الذين كان يحتفلون بقصف الخالدية وحمص القديمة وقتل أهل حمص» ويتابع أن بيت جده في حي المالكي الذي يعد من أرقى أحياء دمشق بات اليوم أقرب إلى حي علوي شعبي منه إلى حي راق، بعدما هاجر معظم سكان الحي من الدمشقيين الأثرياء، وبقي الشبيحة والموالون للنظام من يرى تلك الأحياء يقول: إن سوريا بخير وإن شيئا لم يحصل».

إلا أن هيام.ن السيدة الدمشقية تفسر حالة الانفصام التي تعيشها المدينة على الضد مما قاله أحمد.ل فهي ترى أن الحركة بعد الإفطار تعود إلى أيام العشر الأواخر من رمضان عادة تشهد حركة غير عادية لاقتراب العيد، كما أنها لا تقتصر على الأحياء الراقية، بل معظم الأحياء الهادئة، أنها رغبة بالعيش ومقاومة للقلق والموت. وتشير هيام إلى أن الحركة هي كذلك في الأسواق التقليدية بالحميدية والحريقة إلا أنها تستدرك بالقول: «نعم هناك تواجد للناس في الشوارع لكن ليس هناك حركة شراء في السوق، فالأسعار كاوية، الناس تخرج للترويح عن النفس وتنسم الهواء الرطب».

أحد تجار الألبسة في سوق الطلياني يؤكد ما قالته هيام بأن حركة الشراء تراجعت كثيرا هذا العام عن الأعوام السابقة، فعدا افتقاد السوق للبضائع الجديدة من الملابس، الأسعار مرتفعة جدا بسبب تكاليف النقل، وكذلك كان رأي بائع الحلويات الذي اقتصر إنتاجه على عدة أصناف، الأقل كلفة، فالمواد الغذائية باتت باهظة الثمن، وكثير من الزبائن قللوا الكميات التي كانوا يأخذونها بالعادة، والغالبية من المارة ينظرون إلى الواجهة ويمضون دون شراء.

«هناك أمر غير طبيعي... أن تعود الحياة طبيعية أمر غير طبيعي في بلد يحترق» قالت سارة.م (20 عاما) معبرة عن دهشتها من ازدحام السيارات في الساعة الحادية عشرة ليلا في ساحة عرنوس، هزت رأسها وضحكت قبل أن تعود للوجوم.. هذا حالنا هنا في «طاسة باردة، طاسة سخنة» الطاسة الباردة رمضان وطقوسه وقدوم العيد والساخنة الدمار والقتل وارتفاع الأسعار.