أدباء العراق ينعون عبد الستار ناصر.. فتى القصة العراقية الوسيم وطفلها الأبدي

«سيدنا الخليفة» أودعه السجن الانفرادي لمدة سنة

TT

على الغلاف الأخير لأول نص روائي يكتبه عبد الستار ناصر بعنوان «تلك الشمس كنت أحبها» كتب القاص والروائي العراقي: «ولد عام 1947 - لم يمت بعد».

كان ذلك عام 1971 زمن صدور تلك الرواية، وبعد 42 عاما مات عبد الستار ناصر لكن ليس في محلة «الطاطران» في قلب بغداد التي ولد فيها؛ بل في مدنية تورونتو الكندية التي تبعد آلاف الأميال عما كان قد تبقى من ذكرياته وذاكرته. تلك الذاكرة والذكريات التي كان قد سفحها على الورق عشرات الكتب جمعت بين الرواية والقصة وأدب المذكرات وحتى الاعترافات.

يعد عبد الستار ناصر واحدا من ألمع أدباء جيل الستينات القصصي والروائي في العراق وبشهادة بعض من أبرز الأدباء والكتاب العراقيين الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط». وأنتج الراحل ما يزيد على 50 كتابا في الرواية والقصة والنقد. ولعله القاص الوحيد الذي سجن بسبب قصة على عهد النظام العراقي السابق. وعلى أثرها اعتبر ناصر نفسه (أخطر قاص في العالم العربي) قائلا: «إن من يعاني عذاب السجن بسبب قصة فلن يعود إلى كتابة القصة مثل ما فعلت وواصلت». والقصة التي أودع عبد الستار ناصر السجن الانفرادي بسببها لمدة عام اسمها «سيدنا الخليفة» وكان بطلها محافظ بغداد آنذاك خير الله طلفاح وهو خال الرئيس العراقي السابق صدام حسين. وكان محور القصة يدور حول إجراءات طلفاح ضد حرية الرأي والتعبير والنساء السافرات؛ إذ شكل شرطة أطلق عليها «شرطة الآداب» مهمتها صبغ سيقان الفتيات ممن يرتدين ملابس قصيرة. وبما أن ناصر كان الأكثر وسامة بين أدباء جيله، فإن وسامته شكلت إحدى العلامات الفارقة في أدبه النسائي، إن صح التعبير.

صدرت للراحل عدة كتاب في الثمانينات من القرن الماضي نالت شهرة واسعة على الرغم من ظروف الحرب العراقية - الإيرانية وهي: «أوراق امرأة عاشقة» و«أوراق رجل عاشق» و«أوراق رجل مات حيا». له أيضا اعترافات قلما يبوح بها كاتب شرقي ما عدا ربما المغربي محمد شكري صاحب «الخبز الحافي». ففي «صندوق الأخطاء» يقر بأنه كان على خطأ حين كتب قصصا وروايات بدت تمجيدا للحرب التي شنها النظام العراقي السابق على إيران، مثلما يؤكد أنه عمل على تصحيح خطأه ذاك بأن خرج إلى العاصمة الأردنية عمّان أواخر تسعينات القرن الماضي ليكتب روايات وقصصا ومقالات تكشف عسف نظام صدام حسين. وفي كتابه «قصصي في حياتي» لا يتوانى عن نقل هذا المقطع الحواري بينه وبين معلمه حين كان تلميذا صغيرا: «كيف حال ماما؟ ما لون ثوبها؟ هل تسألك عني يا عبد الستار؟ هل تنام مع بابا في فراش واحد؟ ماذا يفعل بابا في الليل؟».

الأوساط الأدبية والثقافية العراقية اعتبرت رحيل عبد الستار ناصر خسارة كبيرة للأدبين العراقي والعربي. وفي هذا السياق، أكد الناقد فاضل ثامر رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق أن «الكاتب الكبير عبد الستار ناصر الذي فجعنا جميعا بموته في منفاه الثلجي الكندي يعد واحدا من ألمع الأصوات التي أنجبتها الثقافة العراقية وهو أحد أهم كتاب جيل الستينات حيث كان دؤوبا ومبدعا ويمتلك رؤية رمزية وقد مثل خصائص ذلك الجيل»، مضيفا: «إنني اعترفت بجهده وفي وقت مبكر وذلك في كتابي (قصص عراقية معاصرة) الذي ألفته عام 1971 بالاشتراك مع الناقد ياسين النصير؛ حيث اخترت قصة جريئة له اسمها (اعترافات رجل اسمه شريف نادر) التي تحمل رؤية كابوسية كافكوية، وقد بقي يشتغل على ثيمات صادمة ضد الملاحقة والاضطهاد». وأكد ثامر أن «قصته المعروفة (سيدنا الخليفة) كانت قد فسرت وقتها في السبعينات على أنها ضد النظام، وقد سجن بسببها، وقد تركت عملية الاعتقال تلك تأثيراتها على شخصه وأدبه».

من جهته، اعتبر القاص والروائي أحمد خلف الذي ينتمي إلى جيل الستينات الذي ينتمي إليه ناصر أن «جيل الستينات كان قد ساهم في رسم خارطة الثقافة العراقية الحديثة، وقد أسهم عدد من القاصين العراقيين البارزين بدور في ترسيخها؛ ومن بين هؤلاء القاص الراحل عبد الستار ناصر». ودعا أحمد خلف «النقد الأدبي إلى أن يعيد قراءة عبد الستار ناصر من جديد؛ إذ ضاعت حقائق أدبية وثقافية في ظروف عسيرة». واعتبر خلف أن «مجموعة عبد الستار القصصية (الحب رميا بالرصاص) خطوة مهمة في مسيرة ظاهرة القصة القصيرة في العراق». وأوضح خلف أن «رحيل ناصر خسارة شخصية لي وخسارة للأدبين العراقي والعربي.. وترك تراثا هاما سوف يبقى ينهل منه كتاب القصة الجدد، وأقول ذلك دون الانجرار إلى عاطفة صداقة عمرها أكثر من 40 عاما».

أما القاص السبعيني عبد الستار البيضاني فقد أكد من جانبه أن «خسارتنا برحيل عبد الستار ناصر كبيرة ولا تعوض ولا بد من القول إنه ربما القاص الوحيد الذي دخل السجن من أجل نص أدبي، وأسست فترة السجن بالنسبة له منطلقا هاما في أعماله اللاحقة»، مشيرا إلى أن «رؤية ناصر تلك إنما كانت دفاعا عن هوية بغداد التي يريد البعض اليوم أن يجعلها قندهار»، معتبرا أن «(سيدنا الخليفة) التي سجن عبد الستار بسببها إنما أسست لجرعة الحرية التي نعيشها اليوم ضد أي ظلامي يفكر بعودة سيدنا الخليفة مجددا».

أما الناشط المدني وعضو التيار الديمقراطي الليبرالي في العراق حسين الساهي فيرى أن «أعمال عبد الستار ناصر الأدبية مثلت منذ البدء تطورا هاما على صعيد الحرية واحترام حقوق الإنسان حيث كان واعيا وعميقا ومشاكسا ولكن من أجل الإنسان». وأشار إلى أن «الأساس في قصته ذائعة الصيت (سيدنا الخليفة) لم تكن روح التحدي فقط بقدر ما كانت بناء قيم الحرية والعدالة والمساواة، ولذلك فإنه يصعب تعويض كاتب بحجم عبد الستار ناصر».