صباح فخري يلهب ليل بيروت بإطلالته منشدا القدود الحلبية مع نجله أنس

قدم وصلات غنائية تليق بالعمالقة فكان ضيف الشرف بامتياز

حفلة صباح فخري في وسط بيروت ومعه نجله أنس
TT

صحّ في حفلة صباح فخري التي أقيمت ضمن مهرجانات «أعياد بيروت» القول الشائع «هذا الشبل من ذاك الأسد»، بعد أن تابع حاضروها وعلى مدى ثلاث ساعات متتالية، غناء القدود الحلبية مع الفنان السوري ونجله أنس، الذي شكّل مفاجأة الحفلة بالنسبة لهم.

وجاءت مشاركة أنس في الحفلة التي اكتظت مقاعدها بجمهور كثيف، تألّفت غالبيته من الجيل القديم، تكملة لصفحة كتاب لا بل لمجلّد من فن التراث الأصيل. إذ احتلّ أنس بصوته وأدائه المساحة الأكبر من هذه الحفلة التي أمّها الناس من مختلف بقاع لبنان وسوريا للاستماع إلى أستاذ غناء القدود الحلبية في العالم العربي صباح فخري، فكان ابنه ضيف الشرف دون منازع.

استهلّت الحفلة التي تأخّرت انطلاقتها نحو الساعة عن موعدها (العاشرة بدل التاسعة) بوصلة غنائية لنجمة برنامج ستار أكاديمي في موسمه الأخير سارة فرح مؤدّية أغنية لكوكب الشرق أم كلثوم «دارت الأيام»، وليطلّ بعدها صباح فخري متوجها إلى جمهوره بالقول: «أهلا وسهلا شرّفتونا ونحن سعداء بحضوركم كل عام وأنتم بخير وأقدم لكم ابني أنس». هنا بدأت الفرقة الموسيقية بعزف أغنية «يا مال الشام» التي افتتح بها الفنان السوري العريق الحفلة وهو يجلس على كرسي وسط المسرح وقد بدا أنيقا يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء ثم ما لبث الابن أنس أن تسلم منه الغناء بسلاسة وهو ينشد مقطعا من الأغنية نفسها «ياللا يامالي طال الغياب يا حلوة تعالي» لينتقل بعدها إلى أداء أغنية «مالك يا حلوة مالك» وليردّ عليه والده بمقطعها الثاني «هوّ الدلال غيّر حالك» فشكلا سويا دويتو غنائي متجانس. وتوجه الابن لوالده بالقول: «بدنا نسمع الأستاذ» (محاولا تحفيز والده على الغناء) فوقف هذا الأخير متحمسا رغم ثقل خطواته وهمّته ينشد معه «يا شادي الألحان» فالتهبت أجواء المسرح بالتصفيق الحار من قبل الجمهور الذي وقف بدوره متحمسّا وفرحا برؤية نجمه بكامل لياقته البدنية، بعد أن كان خيّل إليه أنه لن يستطيع الوقوف على قدميه بسبب تقدّمه في العمر.

وبعد وقفات قصيرة من قبل الأب ووصلات غنائية طويلة من قبل الابن، كرّت سبحة الغناء لتشمل «قدّك الميّاس يا عمري» و«فوق النخل» و«البلبل نادى غصن الفل» و«كنا ستة على النبعة» التي لوّنها أنس بكلمات أشار فيها إلى والده قال فيها «كنا ستة على النبعة واجا الصبوح صرنا سبعة».

وتخلل هذه المقاطع المغناة بغالبيتها من قبل نجل الفنان السوري حضورا أخاذا لصباح فخري الذي رقص حينا وتمايل بخصره وهزّ بكتفيه أحيانا أخرى، فكان الجمهور يتفاعل مع حركاته هذه فكانت بمثابة أحجار كريمة ترصّع اللوحات الغنائية بين الفينة والأخرى.

ولوحظ بين فترة وأخرى اهتمام أنس بأدق تفاصيل تحركات والده على المسرح، إذ كان حتى أثناء أدائه يطلب له كوب مياه ليشرب أو محارم ورق ليمسح به عرقه أو مساعدته على الوقوف وتثبيت الميكروفون أمامه.

ولعلّ أكثر اللحظات التي أشعلت الأجواء وحماس الجمهور هي تلك التي غنّى فيها الاثنان «لولو بلولو شلّة حبيبي طالب من الله الحلو نصيبي» التي ألحقاها مرة ثانية بأغنية «قدّك الميّاس» بحيث ألقاها صباح فخري على طريقته ذاكرا ابنه وقائلا: «قدّك الميّاس يا أنسي» ليردّ عليه الابن «جلّ من سواك صباح فخري» فأخذ الجمهور يصفّق بحرارة ولا سيما عندما أخذ الأب يرقص يمينا ويسارا رقصة الطرب المعروف فيها على طول المسرح ويعود بعدها ليجلس على كرسيه ليحظى بفترة استراحة طويلة استمرّت لأكثر من خمسين دقيقة.

وبعد أداء أنس أغنية «قل للمليحة في الخمار الأسود» طلب من أحد أفراد الكورال المرافق لهما (محمد خيري) أن يقدّم مقطعا غنائيا ليعود هو من جديد ليقف أمام الميكروفون ويغني «ابعتلي جواب». وبقيت الحالة على هذا المنوال لفترة طويلة كانت قد قاربت فيها عقارب الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لتعود الأجواء وتشتعل من جديد مع غناء الأب وابنه «خمرة الحب». وكان الجمهور لا يكف عن التصفيق في كل مرّة طالت فيها طلعات صباح فخري الغنائية بصوته القوي الذي بدا أكثر نقاء في هذه الوصلة المتأخرة من الحفلة.

واختلفت ملاحظات الموجودين حول مجريات الحفلة التي استرجعوا فيها لحظات قيّمة لأيام خلت مع أغان عالبال مثل (ياطيرة طيري يا حمامة) و(يا سمك يا بنّي) إضافة إلى مواويل حلبية جميلة، إذ اعتبرها البعض آخر همزة وصل ما بين الجيلين القديم والجديد من حيث الفن التراثي، فيما وصفها آخرون بأنها كانت بمثابة مقدمة واضحة لمشوار أنس الفني في لبنان والعالم العربي. راح آخرون بين وقت وآخر يصرخون باستياء (نريد أن نستمع لصباح فخري لقد جئنا من أجله) في ظلّ الوصلات الطويلة التي قدّمها ابنه، وانتقدت شريحة من الحضور هذا التعتيم على مشاركة أنس لحفلة والده في الإعلانات التي روّجت للحفلة الأمر الذي غاب أيضا عن بطاقاتها، إلا أن مجرّد مشاهدتهم لصباح أبو قوس (اسمه الحقيقي) عن عمر يناهز الثمانين عاما يقف أمامهم ويلوّح لهم بيده أو يلعب دور المايسترو لغناء ابنه أو يرقص بكل جوارحه على المسرح كان كافيا لينسيهم ملاحظاتهم على هذه الحفلة التي وصفت بإحدى أجمل الحفلات التي استقطبت اللبنانيين بشكل عام.

وختم آل فخري السهرة بغناء موال بعنوان (الورد الليلي اللون) ليعلنا انتهاء السهرة بعد أن شكر أنس الموجودين لحضورهم فيما ودّعهم والده بالقول: «تصبحون على خير».

ربما أكثر ما يعلق في أذهاننا بعد مشاهدتنا لحفلات عمالقة الغناء أمثال صباح فخري وديميس روسوس هي التغييرات الجذرية التي أصابت شكلهم الخارجي فيغفل عن بالنا أننا نحن أيضا تقدّمنا بالسن ولا يمكننا أن نسترجع لحظات جميلة من ماضينا وحنيننا دون أن يكون الزمن قد خطّ بقلمه على وجوه تلك الشخصيات التي ما زلنا نتذكرها في أوج شبابها عندما كنا يافعين ومراهقين نلهو بالدنيا وكأنها لن تجرؤ يوما على ملامستنا لا من بعيد ولا عن قريب.