أقدم شوارع العاصمة السورية يفتقد زواره

«المستقيم» يزيد عمره على ألفي سنة وسار عليه القديس بولس

سوق مدحت باشا يشكل الجزء الغربي من الشارع المستقيم وحوانيته التراثية
TT

لقد تغير كل شيء هنا في هذا الشارع العريق المسمى الشارع المستقيم أقدم شوارع دمشق والذي يزيد عمره على الألفي سنة ويربط بين أقدم بوابتين دمشقيتين وهما باب الجابية غربا وباب شرقي شرقا؟!.. منذ سنتين ومع مرور الأيام والأسابيع والشهور وتفاقم الأزمة والأحداث الدامية والحرب التي تعيشها البلاد، يتنهد - عدنان بعلبكي أبو مازن - وهو يتحدث: الشارع الذي كان يضج بالناس والزوار والسياح صار مقفرا خاصة مع ساعات المساء الأولى حيث لا يعبره إلا مجموعة قليلة من الناس وهم غالبا من سكان المناطق المجاورة كباب توما والقشلة والأمين، ولذلك ما إن يحل العصر حتى تجد معظم دكاكينه قد أغلقت واجهاتها الخشبية التراثية، التي كانت في السنوات الماضية تفتح حتى العاشرة ليلا. ومع تحسره على الأيام الخوالي يتابع أبو مازن وهو جالس أمام دكانه الذي ورثه عن والده ويبيع فيه التحف الشرقية (الآنتيك) ينتظر زبونا أو شخصا يسأله عن سعر تحفة ما حتى ولو لم يشترها، يقول أبو مازن: كان معظم زبائننا من السياح الأجانب، كانوا يتجولون في الشارع ويقيمون في فنادقه ونزله التراثية ولكنهم غابوا وصرنا نادرا ما نرى شخصا أجنبيا هنا في حين زوار الشارع من السكان المحليين يأتونه ليشتروا مواد غذائية أو مكسرات حيث تتواجد فيه أعرق محامص الموالح في دمشق.

في منتصف تسعينات القرن الماضي انطلقت في حارات المدينة القديمة كباب توما وباب شرقي والأمين والشارع المستقيم وغيرها حركة ترميم البيوت الدمشقية القديمة وتحويلها لنزل وفندق ومطاعم ومقاه بلغت أوجها قبل بدء الأزمة ووصل عددها للمئات ولتتوقف تقريبا في السنتين الأخيرتين بل الكثير من تلك المنشآت أغلقت أبوابها.

إنه كئيب حزين كحال السوريين هذه الأيام ـ تقول بحسرة ليندا وهي موظفة في أحد فنادق الشارع التراثية ـ فالشارع المستقيم الذي سار عليه بولس الرسول قبل ألفي عام لم يعد يسير حاليا عليه السياح الذين كانوا حريصين على السير على خطى القديس بولس في رحلاتهم السياحية إلى دمشق ويضعونه في رأس قائمة برامجهم السياحية لأنه وببساطة لم يعد هناك سياح أو مجموعات سياحية تأتي لسوريا بسبب الحرب ولذلك فإن معظم فنادق الشارع تخلو من النزلاء كما هي حال فنادق دمشق القديمة وحتى بعضها أغلق أبوابه وصرف عماله وبعضها اضطر لفتح صالوناته وغرفه المطلة على الشارع ليحولها لكافيتريات ومطاعم ربما ليستقطب الزبائن المحليين الراغبين بنفس أركيلة مع كأس شاي أو فنجان قهوة وبالتالي يمكنه أن يؤمن رواتب للعاملين فيه وليس للربح ـ تقول ليندا ـ فالمهم برأي أصحاب هذه الفنادق أن يقولوا للناس إننا ما زلنا موجودين وننتظر الفرج.

ولم ينج الشارع العريق من الأحداث الدموية حيث تعرض لعدة حوادث أمنية كسقوط قذائف الهاون كما شهد قبل أيام قليلة تفجير سيارة بعبوة ناسفة مركونة في وسط الشارع المستقيم بجانب المحامص خلفت إصابات قاتلة وجرحى بين سكان الشارع والعابرين منه.

والشارع المستقيم الذي يعتبر أقدم شارع منظم في دمشق ويبلغ طوله نحو الكيلومترين حيث يشغل الجزء الغربي منه سوق مدحت باشا المسقوف أو ما كان يعرف بالسوق الطويل شهد في السنوات الخمس عشرة الأخيرة نشاطا سياحيا واسعا واستقطابا لوفود سياحية كثيرة وجولات فيه لمعظم الشخصيات العالمية والرؤساء والملوك الذين كانوا يزورون دمشق في زيارات رسمية أو شخصية، خاصة بعد إنجاز مشروع ترميم واسع نفذ قبل سنوات قليلة، كما شاهدت الكثير من أبنية الشارع المتهالكة التي يزيد عمرها على مئات السنين أعمال ترميم وإصلاح وحولت لفنادق من فئات راقية ونزل تراثية ولمطاعم وصالات عرض فنية تتناسب مع عراقة الشارع، فيما حافظت معظم دكاكين الشارع التي يصل عددها لنحو 400 حانوت على تخصصها المتوارث وهي بشكل خاص بيع التحف الشرقية واللوحات الفنية والأدوات المنزلية التراثية والأقمشة وبيع مستلزمات الكنائس من الشموع والأيقونات والمباخر وغيرها، فيما حول البعض حوانيته لمهن معاصرة تؤمن احتياجات السكان المحليين كبيع الخضار والوجبات السريعة ومقاهي إنترنت ولكنها تبقى قليلة إذا ما قورنت بالنشاطات الرئيسية والمتوارثة.

حتى الأنشطة الثقافية والاجتماعية في الشارع توقفت ـ تعلق سمر خوري الطالبة الجامعية التي تقيم في منطقة باب توما المجاورة للشارع المستقيم وتعتبر نفسها من المتابعات الدائمات للأنشطة الثقافية والفنية في دمشق: في النصف الشرقي من الشارع المستقيم حيث توجد حديقة القشلة كان هناك في كل شهر معرض فني في الملجأ الأثري تحت الحديقة الذي كان باكورة مشاريع مماثلة تقرر افتتاحها في دمشق القديمة وتحويلها من ملاجئ إلى أماكن عامة لأنشطة ثقافية. ولكن المشروع توقف مع بداية الأزمة كما توقف أي نشاط ثقافي في ملجأ القشلة والحال نفسه ينطبق أيضا على الحديقة التي كانت تستقبل كل شهر فرقا موسيقية تقدم حفلات عامة في الهواء الطلق ضمن مشروع ثقافي موسيقي أطلق عليه (موسيقى على الطريق) وأسسته جمعية صدى الموسيقية الأهلية وأشرف عليه الموسيقي السوري شربل أصفهان. ولكن لم يعد لهذا النشاط أي صدى لا في القشلة ولا في أي مكان عام بدمشق حيث أجبرته الأحداث والحرب على التوقف. وبقيت الحديقة بمقاعدها التراثية تستقطب بعض طلاب المدارس المتواجدة بالقرب من منها يستريحون فيها بعد عناء يوم دراسي قبل ذهابهم لبيوتهم كما تستقطب بعض النازحين من ريف دمشق وبلدات غوطتها يجلسون ليمضوا ساعات قليلة متجهين بعيونهم نحو الشرق حيث منازلهم التي هجروها هناك منتظرين خبرا عن حالها وما أصابها نتيجة المعارك.

حجارة الشارع المستقيم التراثية ذات اللون الأسود المزرق والمسماة حجر اللبون التي أنهكتها عجلات السيارات التي تسير عليها بينما مشروع تسيير سيارات كهربائية في الشارع لمنع الحافلات من السير فيه والذي كانت قد أعلنت عنه مديرية حماية المدينة القديمة توقف بعد الأزمة هو الآخر وإلى إشعار آخر.