مافيات تفكك آثار طرابلس اللبنانية وتبيعها بالمفرق

«حماة التراث» فرق شبابية تنشط لإنقاذ آثار المدينة القديمة

قصر العجم هدم جزئيا من الخارج
TT

بينما تشهد العاصمة الفرنسية مؤتمرات ومعارض صور، بهدف الحفاظ على آثار وتراث مدينة طرابلس (شمال لبنان) من تنظيم «الجمعية الفرنسية للحفاظ على تراث طرابلس»، تعيش «مدينة العلم والعلماء» واقعا مأساويا، يطال نسيجها الأثري الممتد على عدة كيلومترات متصلة بعضها ببعــض. هذه المساحة الهائلة تجعل طرابلس أكبر مدينة أثرية في لبنان من دون منـازع، فضــلا عن أنها تضم أكثر من 300 معـلم أثري، مصـنف من قبل البـلدية، 180 منها على لائحة الجرد العام.

عاصمة الشمال تعاني غياب الحماية اللازمة لثروتها التاريخية التي تتعرض لاعتداءات يومية من سرقة وبيع وتصدير وتشويه، في عمليات تقف وراءها مافيات وممولون، يمعنون في الإساءة إلى تلك المعالم.

«نريد الإبقاء على بعض تراث نفتخر به أمام أبنائنا»، يقول لنا رئيس نادي آثار طرابلس، بكر الصديق، الذي التقيناه في النادي والذي تبنى إطلاق حملة «حماة تراث طرابلس» في الأول من ديسمبر (كانون الأول) عام 2012، في خطوة تعد الأولى من نوعها في مدينة لبنانية.

ويضيف الصديق أن «المهمة ليست سهلة، لكننا اليوم بدأنا نؤسس لمرحلة جديدة من الحفاظ على تاريخ المدينة».

وحملة «حماة التراث» تضم اليوم ما بين 70 إلى 80 شابا وشابة من المتطوعين الذين اندفعوا لحماية إرث ثاني أكبر مدينة مملوكية بعد القاهرة التي تزخر بآثار وأبنية تراثية تعود إلى عهود عدة.

أما الشعلة الرئيسة لانطلاقة الحملة، فكانت مع بدء هدم «قصر العجم» والعقار 35 في منطقة التل، العام الماضي، ومع انطلاقة الحملة المدنية لإنقاذ آثار طرابلس، بعدما هدم مسرح الإنجا الأثري في العاشر من ديسمبر 2010، الذي لطالما عكس صورة حضارية لطرابلس الفيحاء وشهد مع فندق «رويال» الملاصق له أحداثا تاريخية مهمة.

ويرى د. خالد تدمري، رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، أن هذه الخطوة تأتي تعويضا عن النقص الحكومي والرسمي، سواء من الوزارات المعنية أو شرطة البلدية. ويضيف تدمري: «(قصر العجم) لم يكن وحيدا في دائرة الاستهداف، بل هو جزء من عشرات المباني التراثية والأثرية التي طاولتها يد الهدم، صراحة أو تورية، مما يجعل تدخل المجتمع المدني ضرورة ملحة، لحماية ما تبقى من تراث المدينة، بدل أن يبقى يتفرج على زوال آثارها وتراثها».

بدوره، يوضح الصديق إنجازات «الحماة» قائلا: «لقد نجحنا في توثيق عشرات الأبنية غير المسجلة على لائحة الجرد وتصويرها بعد التنسيق مع لجنة الآثار والتراث في البلدية والمديرية العامة للآثار، تمهيدا لإدخالها في اللائحة، لأن هناك أبنية موجودة خارج المدينة القديمة تتعرض للهدم والتعديات».

ولا يقتصر دور هؤلاء الحماة على ذلك، بل يشمل توعية الأهالي القاطنين في هذه الأبنية على أهميتها، والسعي إلى ترميمها إذا أمكن، بحسب الصديق.

ورغم ذلك، فإن حضور «المديرية العامة للآثار في طرابلس» يقتصر على مهندس واحد فقط، مولج بالاطلاع على كل آثار محافظة الشمال من البترون إلى عكار، بينما يقتصر حضور وزارة السياحة على مكتب يحتاج إلى كثير من التفعيل.

طرابلس القديمة التي تعد متحفا حيا قائما في الهواء الطلق، لا تزال معالمها التاريخية تنبض بالحياة سواء بالأبنية التراثية المأهولة، أو بالمحلات التجارية ذات العقود الحجرية الممتدة ضمن مناطق، وخانات، وأسواق ضاربة في عمق التاريخ، منذ أكثر من 700 سنة، من خان العسكر، إلى بركة الملاحة، وسوق حراج، وخان الخياطين، وخان المصريين، والتربيعة، وباب الحديد، وخان الصابون، وأسواق النحاسين، والبازركان، والكندرجية، والصاغة، والعطارين، واللحامين، إلى ساحة الدفتردار، وصولا إلى باب الرمل.

هذه المعالم التاريخية وغيرها يقصدها الشبان والشابات بجولات أسبوعية على مبانيها التراثية، فضلا عن جولات دورية لرصد ما تتعرض له هذه الأبنية من تعديات، لوضع علامات خاصة، تمهيدا لتسليمها لوزارة الثقافة، التي من المفترض أن تستأنس بها لدى إصدارها لائحة الجرد الجديدة.

ويشير الصديق إلى أن الناشطين يؤمنون بحماية آثار طرابلس وتراثها ويعرفون مدى الخطورة التي تهددها حتى إنهم يستعملون كاميراتهم الخاصة في التصوير.

واللافت أن أغلب المنضوين في الحملة هم من طلاب الجامعة اللبنانية. ويقول لنا علي علولو، وهو أحد الشبان الناشطين: «ما جعلني أنضم إلى الحملة هو عدم قدرتي على البقاء صامتا عندما أرى تراثي وتاريخي الذي لا يقدر بثمن يباع بـفرنكات. من لا يملك تاريخا، فلا مستقبل له».

وتوافقه الرأي سارة الشهال بالقول: «التدمير الممنهج للأبنية والأماكن التراثية الذي تعرضت له طرابلس في خمسينات القرن الماضي، حرمها إمكانية وضعها على لائحة التراث العالمي لـ(اليونيسكو)».

وتجدر الإشارة إلى أن طرابلس تعاني منذ عدة شهور ظاهرة تفكيك قطع أثرية من البيوت القديمة لبيعها في سوق الآثار بأسعار بخسة على أيدي عصابات متخصصة، وهذا مما أدى إلى تفكيك الكثير من القناطر، والأبواب والشبابيك المزخرفة والمشربيات والشمسيات الحديدية والكتابات والرسومات والعتبات والشبابيك المزخرفة. وهو ما تعرض له «قصر العجم»، سابقا، والعائد إلى الحقبة العثمانية.

وإذا كانت المدينة القديمة قد صنفت بالفعل، فإن جوارها يتميز بانتشار البيوت القديمة الكبيرة ذات الأهمية الهندسية والتاريخية التي تقف شاهدا على أكثر من مائة سنة من التاريخ والمهددة بالمشاريع الباطونية التي تقترب شيئا فشيئا من وسط طرابلس العتيقة.

وفي الختام، يطالب تدمري وزارة التربية بـإدخال مادة التراث والحفاظ عليه إلى مناهج التعليم، لكي يعي الجيل الجديد أهمية ما تختزنه المدن اللبنانية من آثار.