معرض تيتزيانو.. أشهر رسام من فينيسيا.. في اسطبل رئاسة الجمهورية بروما

ألوان لوحاته مثل الشمس بين النجوم الصغيرة

لوحة «البابا بول الثالث» و لوحة «الجميلة»
TT

الكل كان يترقب أهم معرض فني في العاصمة الإيطالية هذا العام، ولم يخيب إسطبل رئاسة الجمهورية (والبابوات سابقا) التابع لقصر الكوريناله الرئاسي ظنهم، فقد انتهى العرض الرائع الذي دام ثلاثة شهور رأينا خلاله 39 لوحة من أشهر لوحات الفنان الكبير تيتزيانو (تيشان بالإنجليزية وتيتيان بالفرنسية)، مبينة كيف تطور أسلوب الرسم والتصوير في القرن السادس عشر في فينيسيا (البندقية) وأصبح تيتزيانو أكثر الرسامين تأثيرا على الحياة الفنية في تاريخ إيطاليا وأوروبا. كان معاصرا للرسم الكبير رافاييل في فلورنسا وامتد تأثيره بعد قرون إلى أساطين فن الرسم أمثال رامبرانت وايل غريكو وروبنز.

كان اختيار الإسطبل القديم لعربات البابا المبني عام 1732 ثم ملك إيطاليا موفقا لأن المبنى الجميل الذي يشمل ثلاثة آلاف متر مربع كان مغلقا للجمهور وكان مرأبا لسيارات رئيس الجمهورية الإيطالية حتى عام 1999 ثم تحول المبنى إلى صالة للعروض الفنية بجوار القصر الرئاسي. يمكننا الآن رؤية الهضاب السبع التي بنيت عليها روما من شرفة الطابق الأعلى وكذلك كنيسة القديس بطرس الشهيرة ومقر الفاتيكان.

ولد تيتزيانو فيتشلي عام 1490 من عائلة معروفة في قرية بييفه دي كادوره قرب فينيسيا (البندقية) بشمال شرقي إيطاليا، وأرسلته عائلته إلى فينيسيا وعمره 9 سنوات حيث تعلم فن الرسم والتصوير وأتقن أساليبه، وتوفي عام 1576 وذاع صيته في أوساط الشخصيات الهامة في ذلك العصر وعلى رأسهم الإمبراطور شارل الخامس زعيم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فانتشر اسمه في شمال إيطاليا ومن ثم في كل أرجاء أوروبا كالنار في الهشيم. لوحات تيتزيانو تتميز حين يرسم صورة شخص ما بإظهار وجهه بالألوان الزيتية برقة وحذاقة، منتقلا من لون إلى آخر مثل انتقال الموسيقى من نغمة إلى أخرى بتغيير طبقات الصوت، وتظهر براعته في تصوير الجانب الإنساني لشخصياته من خلال تعبير الوجه والإيماءات، كما تتميز لوحاته الدنيوية بحيويته وجرأته في اختيار الألوان والحركة في التصاوير، إذ رسم الكثير من النساء متخفيات كآلهة الأقدمين، كما رسم البابوات وحاكم جمهورية فينيسيا أندريا غريتي الذي بدأ حياته في القرن الخامس عشر كتاجر للحبوب في القسطنطينية (إسطنبول حاليا)، ثم صار يبعث بمعلومات عن حركة الأساطيل العثمانية فاعتقل بتهمة التجسس عام 1499، لكنه تمكن من الهرب وقام بمحاربة العثمانيين حين حاولوا اقتحام جزيرة كورفو في اليونان. برعت ريشة تيتزيانو أيضا برسم بالداساره كاسيتيلوني مؤلف الكتاب المعروف «كيف تصبح نبيلا في بلاط الحاكم دون أن تكون متزلفا وتعلمه علاقة الفضيلة بالقوة والسلطة»، ومن أشهر لوحاته قاطبة «رفع السيدة مريم» (صعود العذراء) التي أبدعها عام 1518.

يحب المعجبون بتيتزيانو فنه الراقي ودبلوماسيته وطباعه الأرستقراطية، وكان يكفيه في آخر حياته ثلاثة ألوان هي الأبيض والأسود والأحمر، واشتهر اللون الأحمر الخاص بتيتزيانو خاصة لتلوين شعر النساء ليرسم أروع ومضات الضوء ويملأ اللوحة بالإشراق مثل الشمس بين النجوم الصغيرة. توفي تيتزيانو عام 1576 ودفن في فينيسيا أثناء انتشار وباء الطاعون وإن لم يصب به.

رأينا في المعرض الحالي عددا من أجمل لوحات الرسام الشهير بلونه الأحمر المتميز واهتمامه بالتفاصيل النفسية التي تنبئ عن صفات الشخصية المرسومة بما فيها لوحته الذاتية وعمره 75 سنة، فنرى فيها لحيته الكثة وتعابير وجهه وكأنه يحدثنا بنفسه عما يختلج في داخله في تلك السن، وهي لوحة ثمينة مستعارة من متحف برادو بمدريد. رأينا أيضا في الطابق الأول من المعرض لوحة جدارية كبيرة رسمها عام 1547 لكنيسة سانتا ماريا اسونتا بفينيسيا تظهر استشهاد القديس لورنزو بحرقه حيا تحت سماء ليلية داكنة تجتاحها العواصف. شاهدنا في الطابق الثاني بعضا من لوحاته الدنيوية التي تبرهن لا على الموهبة الفائقة فحسب من الناحية الفنية، بل على غوص تيتزيانو في أعماق الشخصيات التي يصورها مبرزا عواطفهم الخفية مثل لوحة الإمبراطور شارل الخامس وبجانبه كلبه المدلل وهو في قمة جبروته وقوته، أما لوحة «الجميلة» المستعارة من متحف أوفيتزي بفلورنسا فهي من أروع لوحاته النسائية حيث يضيء جسد الحسناء فلورا المرمري اللوحة بكاملها ونلحظ شعرها الأشقر ذا التموجات العسلية وبشرتها البيضاء الناصعة وحواجبها الجذابة، فهي ليست لوحة جميلة فقط، بل هي مرجع لمقاييس الجمال الأنثوية في تلك الحقبة وما يعتبر نموذجا للمرأة المغرية.

عندما تشاهد هذه اللوحات النفيسة تدرك أهمية تطور فن الرسم وكيف أصبحت مساحة التظليل والبياض تخفي بين طياتها الضوء المسلط على الشكل لإبراز معالمه وقراءة تفاصيله وملامحه وعواطفه، وتقدر كيف تمكن الفنان المرهف من التعبير عن إحساسه الدفين لتفاصيل الجمال والتناغم، فقام في عمله الإبداعي يلتقط بعينيه كعيون الصقر أهم السمات البارزة لموضوعه.

ما زال تأثير العهد الذهبي لفن الرسم الإيطالي في مدرسة البندقية خلال عصر النهضة الذي ازدهر في القرنين الخامس والسادس عشر ممثلا في تيتزيانو وتنتوريتو وفيرونيزي ماثلا للأعين مثلما نرى تأثير مدرسة فلورنسا الممثلة برفاييل وليوناردو دا فنشي ومايكل أنغلو، وقد عرضت لوحات تنتوريتو في إسطبل الكويريناله في العام الماضي كما عرضت لوحات كارافاجيو في العام الذي سبقه، وسنرى في العام القادم معرضا خاصا عن الإمبراطور الروماني الشهير أغسطس ويليه عرض للوحات الفنانة المكسيكية المعاصرة فريدا كالو. وبلغ عدد زوار معرض تيتزيانو في الأشهر الماضية أكثر من ربع مليون زائر، وهو رقم قياسي في إيطاليا.