انطلاق الدورة الـ70 لمهرجان فينيسيا بخليط سينمائي راقٍ

معالجة الوضع السياسي في فيلمين جزائري وإسرائيلي

ملصق المهرجان لهذا العام
TT

* كيف كان حال مهرجان فينسيا سنة 1957؟

على المرء أن يبحث عن معمر كان حاضرا في تلك السنوات، والبحث لا يجب أن يطول، فالتاريخ ليس بعيدا جدا. في الحقيقة يمكن للمرء أن يسأل الممثلة المشهورة كلوديا كاردينالي لأنها حضرت دورة ذلك العام لأول مرة.

كان عمرها تسع عشرة سنة، وجاءت للاشتراك في مسابقة جمال كانت كسبتها، وواحدة من الجوائز كانت حضور دورة ذلك العام. قد تتذكر كارديناللي مثلا أنها قابلت هنا المخرج الفرنسي جاك باراتييه الذي كان يحضر لبدء تصوير فيلمه «جحا» الذي قام ببطولته عمر الشريف. لكن حتى وإن فينيسيا بالتالي كان نقطة انطلاقها صوب مستقبل سينمائي انجلى حتى الآن عن 95 فيلما.

بريقها وتاريخها ومكانتها دفعتا المدير الفني للمهرجان ألبرتو باربيرا لدعوتها إلى الدورة السبعين من أعرق مهرجانات السينما في العالم الذي ينطلق رسميا مساء اليوم (الأربعاء) ويستمر حتى الثامن من الشهر المقبل.

الفيلم المعروض لها للمناسبة يستحق إعادة التقديم. إنه «ساندرا» الذي حققه الراحل لوكينو فيسكونتي سنة 1965 عن الميثالوجيا اليونانية «إلكترا»، وهو يشترك في مظاهرة سميت بـ«كلاسيكيات فينيسيا» وتنطوي على بعض الأعمال التي يختارها المهرجان كأعمال دخلت التاريخ. لكن في حين يوافق المرء على أن «ساندرا» (الذي هو ليس أفضل أعمال فيسكونتي بالطبع) قد يكون كلاسيكيا، يتساءل عن سبب زج «ساحر» في هذا القسم، بل وتكريم مخرجه ويليام فرايدكن بمنحه جائزة تقديرية خاصة عن جل أعماله. «ساحر» مثل معظم ما قدمه فرايدكن من أعمال بالكاد متعة ترفيهية وبالغالب ادعاء وتكلف ضمن مضمار النوع المختار. وهو فيلم اختاره فرايدكن سنة 1977 ليكون تكملة لفيلمه السابق «طارد الأرواح» الذي وضع مسمارا في عرش الرعب الموحي ليقدم رعبا مباشرا و- بالنسبة لكثيرين - فجا.

«ساحر» هو الذي سيفتتح هذا القسم الكلاسيكي الذي يعرض 22 فيلما بالإضافة إلى خمسة أفلام من أعمال المخرجة التجريبية الفرنسية شانتال أكرمان. من بين المخرجين الكبار لهذا القسم الهندي ساتياجيت راي والفرنسيين الآن رينيه وجان رنوار والإيطاليين فرنشسكو روزي وروبرتو روسيليني وإليو بتري، بالإضافة إلى لوكينو فيسكونتي كما ذكرنا.

لن يتمكن المرء، إذا ما أم هذه الأفلام، إلا مقارنة مدارس الأمس بمدارس اليوم، وله أن يختار موقع القلب منها جميعا. تلك السينما الجديدة تلتقي في عشرين فيلما داخل المسابقة وأحد عشر فيلما روائيا خارجها وسبعة أفلام تسجيلية خارج المسابقة أيضا.

في قسم «آفاق» نجد سبعة عشر فيلما وبعضها، كما يحدث في كل سنة، ربما كان جديرا بالعرض داخل المسابقة ذاتها. وهناك عشرات الأفلام الأخرى التي تعرض في مظاهرات إضافية موزعة على تلك الصالات المؤقتة التي تقام فوق جزيرة سان ليدو. واحدة في كازينو الجزيرة وأخرى في بناء مجاور كبير بكراسي متقاربة لا توفر الراحة لكنها تستقطب أكثر من ألف مشاهد، ثم عدد من الصالات الأصغر التي تتوزع في أماكن قريبة.

جزيرة ليدو التي تبعد نحو خمس عشرة دقيقة بحرية عن مدينة البندقية ذاتها، كانت - حتى حين قريب - أصغر وأبسط من أن تلبي رغبة السياح لكن المهرجان تسبب في ازدهارها، ومع ازدهارها تسبب في غلاء أسعارها. شأنها في ذلك شأن «كان» وبعض المدن الأخرى التي ترتفع أسعارها في الفترة التي يعقد فيها مهرجانها.

للملاحظة فقط، في المهرجانات التي تعرض في العواصم الكبيرة (تورنتو، شيكاغو، سان فرانسيسكو، لندن، نيويورك…) لا يضرب الغلاء المدن في فترة انعقاد مهرجانها. هي أكبر حجما بحيث يضيع المهرجان ورواده وسط زحامها اليومي من سكانها الدائمين.

ما يتميز به فينسيا عن سواه هو أنه اعتاد أن يجذب إليه بعض الأعمال التي هي أكثر رقيا من أن تضيع وسط كاميرات المصورين. طبعا هناك العروض الليلية التي يصطف لها المصورون والجمهور، لكنها لا تصل إلى حد الجنون الذي يواكب استعراضات مهرجان «كان».

إنه ليس من الهين مطلقا أن يواصل مهرجان ما تميزه، وأن يواكب نجاحه من عام إلى عام بنجاح جديد في كل سنة لاحقة. عوض أن يمشي قدما تراه يصعد إلى أعلى مستفيدا من ذلك القدر الكبير من الهالة التي تحيط به وترفض أن تنزاح عنه. «فينسيا» من بين هذا النوع. ما إن تحط في مطار المنطقة وتأخذ المركب البحري إلى المدينة الصغيرة حتى تشعر بأن المهرجان سيلقي في وجهك مفاجأة سينمائية كل يوم، وأنه من المكانة الفنية بحيث إنه سيكون محطة اكتشاف كبيرة وعامرة. في دورات سابقة، حقق هذا التفاؤل. في أخرى جمع بين الجديد الجيد والجديد الذي كنت تتمنى لو لم تلتقِ به.

الواقع أن مهرجانات السينما العالمية الكبيرة تحتاج إلى هويات متميزة. من حسن حظ «فينسيا» و«برلين» و«كان» أنها أصبحت مثل الأيقونة المنفردة لا ضرورة بعد ذلك لتمييزها ما دام الجهد المبذول يواكب السمعة الحسنة التي لكل واحد من هذه المهرجانات. لكن ليجرب مهرجان نيويورك مثلا حاله لو أنه في إحدى دوراته أخفق في إدهاش الجمهور، أو لو أن مهرجان سراييفو (وهو واحد من تلك المهرجانات الجديدة النشطة والمثيرة للاهتمام) انطلقت دورته وانتهت من دون أن يترك أي من أفلامه أثرا يذكر في أوصال المشاهدين والنقاد. دورتان فاشلتان ويتراجع المهرجان مراكز متعددة إلى الوراء.

الواقع أيضا أن الكثير من المهرجانات الصغيرة تسعى لأن تتميز بتوفير نشاطات لا تجدها في مهرجانات أخرى. «كان» مثلا لا يأخذ رواده في رحلة سياحية على شاطئ الكروازت، ولا يجد برلين نفسه مطالبا بإدخال عنصر سياحي مثل رحلة إلى ما كان ذات يوم «برلين الشرقية». كذلك فإن فينسيا لا ينظم رحلات بقوارب الغوندول. لكن المهرجانات الأصغر تعتقد أنها بحاجة إلى مثل تلك الرحلات. وهل ينسى المرء الرحلات المسائية التي كان مهرجان القاهرة يقيمها فوق مركب فوق النيل العظيم؟ وكيف لا يمكن لمهرجان سراييفو أن لا ينظم رحلة إلى التاريخ القريب ليعرض الأماكن الطبيعية لأكثر معارك الحرب الأهلية التي دارت بين البوسنيين والصربيين؟ المهرجان البوسني المذكور كان انطلق سنة 1994 بينما المدينة في حال حصار واستطاع أن يترعرع سريعا كاسبا على مدى سنين اهتماما واسعا من قبل رواده.

في الركب ذاته ينظم مهرجان سان فرانسيسكو رحلة لنصف يوم تجول في الأماكن التي صور فيها الراحل ألفرد هيتشكوك رائعته «فرتيغو».

طبعا، ليس كل المهرجانات غير الرئيسة تبتكر رحلات من هذا النوع أو ذاك، لكنها جميعا تجد نفسها في إطار من التنافس على نحو ألف فيلم تتبادلها كل سنة شاشات الفن والتجربة والمهرجانات المختلفة. وكثير منها يأخذ من المهرجانات الدولية الثلاثة الأولى (برلين وكان وفينيسيا) ويضيف إليها أفلاما من لوكارنو وكارلوفي فاري وتورنتو (الذي يأخذ من سواه أيضا).

مهرجان فينسيا، كونه الأقدم بين المهرجانات (الدورة الأولى سنة 1932)، يستطيع أن يقتنص لنفسه أفلاما لم يسبق عرضها. مخرجو العالم يسعون إلى ذلك. وفي كل مرة ينجزون فيها عملا جديدا فإن اختياراتهم الأولى محدودة بالمهرجانات الرئيسة وحدها. إذا لم يمر هناك فإن مروره على أي شاشة أخرى هو هزيمة مؤلمة.

فينسيا لا يبحث عن هوية سينمائية لأنه بات الهوية السينمائية المثلى في جو أقل تطلبا للجهد وأكثر تركيزا على الفن. هو بلا سوق تجارية كونه يأتي بعيدا عن العواصم (يتبعه بعد نحو شهر مهرجان روما) ولأن الراغبين في البيع والشراء لديهم مهرجان تورنتو القريب للسفر إليه.

مخرجو هذا العام جاءوا إليه من الجزائر وإيطاليا وفرنسا واليونان وأستراليا وبريطانيا وألمانيا واليابان وتايوان والولايات المتحدة بالطبع. الحال الأميركي لا يزال هو نفسه في كل مرة كما في كل مهرجان دولي: إرسال أفلام مستقلة الروح والإنتاج لأن الأفلام المنتجة من قبل استوديوهات هوليوود لا يهمها كثيرا لو ربحت جائزة الأسد الذهبي أو الفضي أو خرجت بلا جائزة على الإطلاق.

المحطات الرئيسية لوجهة الأفلام في هذا الموسم باتت معروفة: إذا كان لديك فيلم يبحث عن خلود نقدي عليك بفينيسيا. إذا كنت ترغب فقط في توزيعه في الولايات المتحدة ومنها إلى سواها لديك تورنتو. أما إذا كان فيلمك أميركيا من إنتاج شركة كبيرة فيكفيه أن يبدأ الاحتفال بالعرض العالمي الأول.

من هذا الباب اندفع مهرجان فينسيا باختيار فيلم «Gravity» من شركة «وورنر». دراما تدور أحداثها في الفضاء الخارجي عندما يخفق ملاحا فضاء، هما جورج كلوني وساندرا بولوك، في إصلاح عطب ليجدا نفسيهما سابحين في هذا الكون البعيد الذي لا حدود له. الفيلم من إبداع المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون صاحب رائعة أخرى حققها سنة 2006 بعنوان «أطفال الرجال»، وهو واحد من قلة من أفلام المسابقة متحررة من الانتماء إلى الواقع الرمادي الذي نعيشه اليوم على هذه الأرض.

وفي حين تشهد هذه المنطقة من العالم عواصف سياسية وأمنية عاتية، لا بد من أن يعكس المهرجان الإيطالي (غير البعيد عن الشرق الأوسط جغرافيا) قدرا كبيرا من الواقع. وهو لهذا السبب اختار فيلمين في المسابقة يمثلان وجهتي نظر في موضوعين من تلك التي تؤجج الصراعات والأزمات الحالية، فمن ناحية يعود المخرج الجزائري مرزاق علواش إلى أوج نجاحاته المرتقبة عبر فيلم «السطوح» (الذي اختطفه مهرجان دبي من الآن)، في حين يقوم المخرج الإسرائيلي أموس غيتاي بتقديم «أنا عربية» من إنتاج فرنسي / إسرائيلي.

كلا الفيلمين سيواجه الآخر بأسلوب صاحبه المختلف، كذلك سيواجهان معا أفلاما بعضها يماثلهما في قوة المادة ومعالجتها. روائيا، كحال «السطوح» قد ينبري الأميركي - البريطاني تيري جيليام بخطف إعجاب النقاد عبر «نظرية الصفر»، وتسجيليا قد يفوز الأميركي إيرول موريس بالنقاط على فيلم غيتاي عبر فيلمه الجديد «المعلوم المجهول» الذي يرصد فيه بدء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق.

في نهاية المطاف، كل شيء جائز في «فينيسيا»: الفيلم الكبير قد يتمخض والصغير قد ينمو. لكن المؤكد أن الدورة السبعين ستبحر بسفن أفلامها. وما التصميم الجميل لشعارها هذا العام، المكون من رجل يلوح لمركب صغير يحمل وحيد القرن، إلا رمز لعالم مدهش ينتظر كل من أسعدته السينما ولا تزال تبهره.